وقال القاضي -رحمه الله تعالى - في «تفسيره » تحت تفسير الآية الأولى ما نصه : البيضاوي
إن الله لا يغفر أن يشرك به لأنه ، ولأنه ذنب لا ينمحي عنه أثره ، فلا يستعد للعفو بخلاف غيره . بت الحكم على خلود عذابه
ويغفر ما دون ذلك ؛ أي : ما دون الشرك صغيرا كان ، أو كبيرا لمن يشاء تفضلا عليه ، وإحسانا .
وأول المعتزلة الفعلين على معنى : أن الله لا يغفر الشرك لمن يشاء ، وهو من لم يتب ، ويغفر ما دونه لمن يشاء ، وهو من تاب .
وفيه تقييد بلا دليل ؛ إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة أولى منه ، ونقض لمذهبهم .
فإن تعليق الأمر بالمشيئة ينافي وجوب التعذيب قبل التوبة ، والصفح بعدها .
فالآية كما هي حجة عليهم ، فهي حجة على الخوارج الذين زعموا أن كل ذنب شرك ، وأن صاحبه خالد في النار .
ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما ارتكب ما يستحقر دونه الآثام ، [ ص: 356 ] وهو إشارة إلى المعنى الفارق بينه وبين سائر الذنوب .
والافتراء كما يطلق على القول يطلق على الفعل ، وكذلك الاختلاق . انتهى .
وأما الثانية : إن الله لا يغفر إلخ ، فقال : كرره للتأكيد ، أو لقصة «طعمة » .
وقيل : جاء شيخ . . . إلخ .
ومن يشرك بالله إلخ ، فقال : وإنما ذكر في الآية الأولى : فقد افترى ؛ لأنها متصلة بقصة أهل الكتاب .
ومنشأ شركهم كان نوع افتراء ، وهو دعوى التبني على الله سبحانه وتعالى - انتهى - .
قال الشهاب الخفاجي في «العناية » : قوله : وأول المعتزلة . . . إلخ رد على فيما تعسفه هنا . الزمخشري
وتقريره -كما قال النحرير - أنه لا خفاء في أن ظاهر الآية التفرقة بين الشرك وما دونه ؛ بأن الله لا يغفر الأول ألبتة ، ويغفر الثاني لمن يشاء .
ونحن نقول بذلك عند عدم التوبة ، فحملنا الآية عليه بقرينة الآيات والأحاديث الدالة على قبول التوبة فيهما جميعا ، ومغفرتهما عندها بلا خلاف من أحد .
لا يقال : حقيقة المغفرة الستر ، وترك إظهار الأثر ، والمؤاخذة على ما هو باق كالمعصية المتصف بها الشخص تاب ، أو لم يتب ، وهذا لا يتصور في الشرك إلا على تقدير عدم التوبة عنه بالإيمان ؛ إذ هو مع الإيمان يزول عنه بالكلية ، ولا يبقى حتى يغفر ، وإنما المغفرة بالنسبة ترك التعيير بما سلف منه ، وهما معنيان مفترقان لا يقع اللفظ عليهما ، فلا حاجة في الآية إلى التقييد بعدم التوبة ؛ إذ لا مغفرة للشرك الباقي ألبتة ، بخلاف ما دونه لمن يشاء ؛ لأنا نقول : الزائل بالإيمان هو الكيفية الحاصلة في النفس ، والاعتقاد الباطل ، وأما كونه قد أشرك ، فمساو لكونه قد زنى . [ ص: 357 ]
وأما المعتزلة ، فلا يقولون بالتفرقة بين الشرك وما دونه من الكبائر ؛ في أنهما يغفران بالتوبة ، ولا يغفران بدونها ، فحملوا الآية على معنى : أن الله لا يغفر الإشراك لمن شاء ألا يغفر له ، وهو غير التائب ، ويغفر ما دونه لمن يشاء أن يغفر له ، وهو التائب .
فقيد المنفي بما قيد به المثبت على قاعدة التنازع .
لكن من يشاء في الأول : المصرون بالاتفاق ، وفي الثاني : التائبون ؛ قضاء لحق التقابل .
وليس هذا من استعمال اللفظ الواحد في معنيين متضادين ؛ لأن المذكور إنما تعلق بالثاني ، وقدر في الأول مثله ، والمعنى واحد .
لكن مفعول المشيئة يقدر في الأول : عدم الغفران ، وفي الثاني : الغفران ؛ بقرينة سبق الذكر .