قال أصحاب الحجة: عجبا لكم معاشر المقلدين، الشاهدين على أنفسهم مع شهادة أهل العلم بأنهم ليسوا من أهله، ولا معدودين في زمرة أهله .
كيف أبطلتم مذهبكم بنفس دليلكم؟ فما للمقلد وما للاستدلال!
وأين منصب المستدل؟ وهل ما ذكرتم من الأدلة إلا ثيابا استعرتموها من صاحب الحجة، فتجملتم بها بين الناس، وكنتم مع ذلك متشبعين بما لم تعطوه، [ ص: 277 ] ناطقين من العلم بما شهدتم على أنفسكم أنكم لم تؤتوه؟ وذلك ثوب زور لبستموه، ومنصب لستم من أهله غصبتموه.
فأخبرونا: هل صرتم إلى التقليد لدليل قادكم إليه، وبرهان دلكم عليه، فنزلتم به من الاستدلال أقرب منزل، وكنتم به عن التقليد بمعزل؟ أم سلكتم سبيله اتفاقا وتخمينا من غير دليل، وليس إلى خروجكم عن أحد هذين القسمين من سبيل؟
وأيهما كان، فهو بفساد مذهب التقليد حاكم، والرجوع إلى مذهب الحجة فيه لازم.
ونحن إن خاطبناكم بلسان الحجة، قلتم: لسنا من أهل هذه السبيل، وإن خاطبناكم بحكم التقليد، فلا معنى لما أقمتموه من الدليل.
والعجب أن كل طائفة من الطوائف وكل أمة من الأمم تدعي أنها على حق، حاشا فرقة التقليد; فإنهم لا يدعون ذلك، ولو ادعوه، لكانوا مبطلين; فإنهم شاهدون على أنفسهم بأنهم لم يعتقدوا تلك الأقوال لدليل قادهم إليها وبرهان دلهم عليها، وإنما سبيلهم محض التقليد، والمقلد لا يعرف الحق من الباطل، ولا الحالي من العاطل.
وأعجب من هذا: أن أئمتهم نهوهم وخالفوهم عن تقليدهم، فعصوهم وخالفوهم، وقالوا: نحن على مذاهبهم، وقد دانوا بخلافهم في أصل المذهب الذي بنوا عليه، فإنهم بنوا على الحجة، ونهوا عن التقليد، وأوصوهم إذا ظهر الدليل أن يتركوا أقوالهم ويتبعوه، فخالفوهم في ذلك كله، وقالوا: نحن من أتباعهم.
تلك أمانيهم، وما أتباعهم إلا من سلك سبيلهم، واقتفى آثارهم في أصولهم وفروعهم.
[ ص: 278 ] وأعجب من هذا: أنهم مصرحون في كتبهم ببطلان التقليد وتحريمه، وأنه لا يحل القول به في دين الله.
ولو اشترط الإمام على الحاكم أن يحكم بمذهب معين، لم يصح شرطه، ولا توليته، ومنهم من صحح التولية، وأبطل الشرط.
وكذلك المفتي يحرم عليه الإفتاء بما لم يعلم صحته باتفاق في الناس .
والمقلد لا علم له بصحة القول وفساده، إذ طريق ذلك مسدودة عليه .
ثم كل منهم يعرف من نفسه أنه مقلد لمتبوعه، لا يفارق قوله، ويترك له كل ما خالفه من كتاب أو سنة، أو قول صاحب، أو قول من هو أعلم من متبوعه، أو نظيره، وهذا من أعجب العجب.
وأيضا، فإنا نعلم بالضرورة، أنه لم يكن في عصر الصحابة رجل واحد اتخذ رجلا منهم يقلده في جميع أقواله، فلم يسقط منها شيئا، وأسقط أقوال غيره فلم يأخذ منها شيئا.
ونعلم بالضرورة أن هذا لم يكن في التابعين، ولا تابعي التابعين .
فليكذبنا المقلدون برجل واحد سلك سبيلهم الوخيمة في القرون المفضلة، على لسان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- .
وإنما حدثت هذه البدعة في القرن الرابع المذموم على لسانه صلى الله عليه وسلم-.
فالمقلدون لمتبوعهم في جميع ما قالوه، يبيحون به الفروج، والدماء، والأموال، ويحرمونها، ولا يدرون، أذلك صواب أم خطأ على خطر عظيم؟
ولهم بين يدي الله موقف شديد، يعلم فيه من قال على الله ما لا يعلم أنه لم يكن على شيء.
وأيضا فنقول لكل من قلد واحدا من الناس دون غيره: ما الذي خص صاحبك أن يكون أولى بالتقليد من غيره؟
[ ص: 279 ] فإن قال: لأنه أعلم أهل عصره، وربما فضله على من قبله مع جزمه الباطل أنه لم يجئ بعده أعلم منه .
قيل له: وما يدريك - ولست من أهل العلم بشهادتك على نفسك - أنه أعلم الأمة في وقته، فإن هذا إنما يعرفه من عرف المذاهب وأدلتها، وراجحها ومرجوحها، فما للأعمى ونقد الدراهم؟
وهذا أيضا باب آخر من القول على الله بلا علم.
ويقال له ثانيا: فأبو بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان، وعلي، وابن مسعود، وأبي بن كعب، ومعاذ بن جبل، وعائشة، وابن عباس، أعلم من صاحبك بلا شك، فهلا قلدتهم وتركته؟ وابن عمر،
بل سعيد بن المسيب، والشعبي، وعطاء، وأمثالهم أعلم وأفضل بلا شك. فلم تركت تقليد الأعلم الأجمع لأدوات الخير والعلم والدين، ورغبت عن أقواله ومذهبه إلى من هو دونه؟ وطاوس،
فإن قال: لأن صاحبي ومن قلدته أعلم به مني، فتقليدي له أوجب علي مخالفة قوله لقول من قلدته ; لأن وفور علمه ودينه يمنعه من مخالفة من هو فوقه وأعلم منه إلا بدليل صار إليه، هو أولى من قول كل واحد من هؤلاء.
قيل له: ومن أين علمت أن الدليل الذي صار إليه صاحبك الذي زعمت أنت أنه صاحبك، أولى من الدليل الذي صار إليه من هو أعلم منه وخير منه، أو هو نظيره؟
وقولان معا متناقضان، لا يكونان صوابا، بل أحدهما هو الصواب، ومعلوم أن ظفر الأعلم الأفضل بالصواب أقرب من ظفر من هو دونه.
فإن قلت: علمت ذلك بالدليل.
فهاهنا إذا فقد انتقلت عن منصب التقليد إلى منصب الاستدلال، وأبطلت التقليد.
[ ص: 280 ] ثم يقال لك ثالثا: هذا لا ينفعك شيئا البتة فيما اختلف فيه، فإن من قلدته، ومن قلده غيرك قد اختلفا، وصار من قلده غيرك إلى موافقة أبي بكر أو وعمر، علي أو وابن عباس، وغيرهم، دون من قلدته. عائشة،
فهلا نصحت نفسك، وهديت لرشدك، وقلت: هذان عالمان كبيران، ومع أحدهما من ذكر من الصحابة، فهو أولى بتقليدي إياه؟
ويقال له رابعا: إمام بإمام، ويسلم قول الصحابي، فيكون أولى بالتقليد .
ويقال خامسا: إذا جاز أن يظفر من قلدته بعلم خفي على وعلى عمر بن الخطاب، علي بن أبي طالب، دونهم، فأحق وأحق أن يظفر نظيره، ومن بعده بعلم خفي عليه هو; فإن النسبة بين من قلدته وبين نظيره ومن بعده، أقرب بكثير من النسبة بين من قلدته وبين الصحابة. والخفاء على من قلدته أقرب من الخفاء على الصحابة . وعبد الله بن مسعود
ويقال سادسا: إذا سوغت لنفسك مخالفة الأفضل الأعلم لقول المفضول، فهلا سوغت لها مخالفة المفضول لمن هو أعلم منه؟ وهل كان الذي ينبغي ويجب إلا عكس ما ارتكبت؟
ويقال سابعا: هل أنت في تقليد إمامك وإباحة الفروج والدماء والأموال ونقلها عمن هي بيده إلى غيره، موافق لأمر الله، أو رسوله، أو إجماع أمته، أو قول أحد من الصحابة؟
فإن قال: نعم، قال ما يعلم الله ورسوله وجميع العلماء بطلانه .
وإن قال: لا، فقد كفى مؤنته، وشهد على نفسه بشهادة الله ورسوله، وأهل العلم عليه .
ويقال ثامنا: تقليدك لمتبوعك يحرم عليك تقليده، فإنه نهاك عن ذلك، وقال: لا يحل لك أن تقول بقوله حتى تعلم من أين قاله، ونهاك عن تقليده وتقليد غيره من العلماء.
فإن كنت مقلدا له في جميع مذهبه، فهذا من مذهبه، فهلا اتبعته فيه؟
[ ص: 281 ] ويقال تاسعا: هل أنت على بصيرة في أن من قلدته أولى بالصواب عن سائر من رغبت عن قوله من الأولين والآخرين، أم لست على بصيرة.
فإن قال: أنا على بصيرة، قال ما يعلم بطلانه. وإن قال: لست على بصيرة، وهو الحق، قيل له: فما عذرك غدا بين يدي الله، حين لا ينفعك من قلدته بحسنة واحدة، ولا يحمل عنك سيئة واحدة إذا حكمت وأفتيت بين خلقه بما لست على بصيرة منه، هل هو صواب أو خطأ؟
ويقال عاشرا: هل تدعي عصمة متبوعك، أو تجوز عليه الخطأ؟
والأول لا سبيل إليه، بل يقر ببطلانه، فتعين الثاني.
وإذا جوزت عليه، فكيف تحلل، وتحرم، وتوجب، وتريق الدماء، وتبيح الفروج، وتنقل الأموال، وتضرب الأبشار، بقول من أنت مقر بجواز كونه مخطئا؟
ويقال حادي عشر: هل تقول إذا أفتيت وحكمت بقول من قلدته: إن هذا هو دين الله الذي أرسل به رسوله، وأنزل به كتابه، وشرعه لعباده، ولا دين له سواه؟ أو تقول: إن دين الله الذي شرعه لعباده خلافه؟
أو تقول: لا أدري؟ ولا بد لك من قول من هذه الأقوال .
ولا سبيل لك إلى الأول قطعا; فإن دين الله الذي لا دين له سواه، ولا يسوغ مخالفته، وأقل درجات مخالفه أن يكون من الآثمين.
والثاني لا تدعيه، فليس لك ملجأ إلا الثالث.
فيا لله العجب!! كيف تستباح الفروج والدماء والأموال والحقوق، وتحلل وتحرم بأمر، أحسن أحواله وأفضلها لا أدري؟
فإن كنت لا تدري فتلك مصيبة وإن كنت تدري فالمصيبة أعظم
ويقال ثاني عشر: على أي شيء كان الناس قبل أن يولد فلان وفلان وفلان، الذين قلدتموهم، وجعلتم أقوالهم بمنزلة نصوص الشارع، وليتكم اقتصرتم على ذلك ! بل جعلتموها أولى بالاتباع من نصوص الشارع.[ ص: 282 ] أفكان الناس قبل وجود هؤلاء على هدى، أو في ضلالة؟ فلا بد من أن تقروا بأنهم كانوا على هدى.
فيقال لهم: فما الذي كانوا عليه، غير اتباع القرآن والسنن والآثار، وتقديم قول الله ورسوله وآثار الصحابة على ما يخالفها، والتحاكم إليها، دون قول فلان؟ وإذا كان هذا هو الهدى، فماذا بعد الحق إلا الضلال، فأنى تؤفكون؟
فإن قالت كل فرقة من المقلدين - وكذلك يقولون -: صاحبنا هو الذي ثبت على ما مضى عليه السلف، واقتفى منهاجهم، وسلك سبيلهم.
قيل لهم: فمن سواه من الأئمة، هل شارك صاحبكم في ذلك، أو انفرد صاحبكم بالاتباع، وحرمه من عداه ؟ فلا بد من واحد من الأمرين.
فإن قالوا بالثاني، فهم أضل سبيلا من الأنعام، وإن قالوا بالأول، فكيف وقفتم لقول صاحبكم ورد قول من هو مثله أو أعلم منه كله، فلا يرد لهذا قول، ولا يقبل لهذا قول حتى كان الصواب وقفا على صاحبكم، والخطأ وقفا على من خالفه .
ولهذا أنتم موكلون على نصرته في كل ما قاله، وبالرد على من خالفه في كل ما قاله، وهذه حال الفرقة الأخرى معكم.
ويقال ثالث عشر: فمن قلدتموه من الأئمة، فقد نهوكم عن تقليدهم، فأنتم أول مخالف لهم.
قال مثل الذي يطلب العلم بلا حجة، كمثل حاطب ليل يحمل حزمة حطب، وفيه أفعى تلدغه وهو لا يدري. الشافعي:
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف: لا يحل لأحد أن يقول بقولنا حتى يعلم من أين قلناه .
وقال لا تقلد دينك أحدا . أحمد:
[ ص: 283 ] ويقال رابع عشر: هل أنتم موقنون بأنكم غدا موقوفون بين يدي الله، وتسألون عما قضيتم به في دماء عباده، وفروجهم، وأبشارهم، وأموالهم، وعما أفتيتم به في دينه، محرمين ومحللين، وموجبين؟
فإن قلتم: نحن موقنون بذلك، فيقال لهم: فإذا سألكم: من أين قلتم ذلك فماذا جوابكم؟
فإن قلتم: جوابنا إنا حللنا وحرمنا، وقضينا بما في كتاب "الأصل" لمحمد بن الحسن، مما رواه عن - رحمه الله -، أبي حنيفة من رأي واختيار، وبما في "المدونة" من رواية وأبي يوسف عن سحنون أبي القاسم، من رأي واختيار، وبما في "الأم" من رواية الربيع من رأي واختيار، وبما في جوابات غير هؤلاء من رأي واختيار .
وليتكم اقتصرتم على ذلك، أو صعدتم إليه، أو سمت همتكم نحوه، بل نزلتم عن ذلك طبقات.
فإذا سئلتم: هل فعلتم ذلك عن أمري أو أمر رسولي؟ فماذا يكون جوابكم إذا؟
فإن أمكنكم حينئذ أن تقولوا: فعلنا ما أمرتنا به، وأمرنا به رسولك، فزتم وتخلصتم، وإن لم يمكنكم ذلك، فلا بد أن تقولوا: لم تأمرنا بذلك، ولا رسولك، ولا أئمتنا، ولا بد من أحد الجوابين، وكأن قد .
ويقال خامس عشر: عيسى ابن مريم إماما عدلا، وحكما مقسطا، فبمذهب من يحكم، وبرأي من يقضي؟ ومعلوم أنه لا يحكم ولا يقضي إلا بشريعة نبينا صلى الله عليه وسلم- التي شرعها الله لعباده، فذلك الذي يقضي به أحق وأولى الناس به عيسى بن مريم، هذا الذي أوجب عليكم أن تقضوا به وتفتوا، ولا يحل لأحد أن يقضي، ولا يفتي بشيء سواه البتة. إذا نزل
فإن قلتم: نحن وأنتم في السؤال سواء، قيل: أجل، ولكن نعترف في الجواب فنقول: يا ربنا! إنك لتعلم أنا لم نجعل أحدا من الناس عيارا على [ ص: 284 ] كلامك وكلام رسولك، ونرد ما تنازعنا فيه إليه، ونتحاكم إلى قوله، ونقدم أقواله على كلامك وكلام رسولك وكلام أصحاب رسولك، وكان الخلق عندنا أهون من أن نقدم كلامهم وآراءهم على وحيك، بل أفتينا بما وجدناه في كتابك، وبما وصل إلينا من سنة رسولك، وما أفتى به أصحاب نبيك، وإن عدلنا عن ذلك، فخطأ منا لا عمد، ولم نتخذ من دونك ولا رسولك ولا المؤمنين وليجة، ولم نفرق ديننا ونكون شيعا، ولم نقطع أمرنا بيننا زبرا، وجعلنا أئمتنا قدوة لنا، ووسائط بيننا وبين رسولك في نقلهم ما بلغوه إلينا عن رسولك، فاتبعناهم في ذلك، وقلدناهم فيه، إذ أمرتنا أنت وأمرنا رسولك بأن نسمع منهم، ونقبل ما بلغوه عنك وعن رسولك، فسمعا لك ولرسولك وطاعة، ولم نتخذهم أربابا نتحاكم إلى أقوالهم، ونخاصم بها، ونعادي عليها، بل عرضنا أقوالهم على كتابك وسنة رسولك، فما وافقهما، قبلناه، وما خالفهما، أعرضنا عنه وتركناه، وإن كانوا أعلم منا بك وبرسولك.
فمن وافق قوله قول رسولك، كان أعلم منهم في تلك المسألة .
فهذا جوابنا، ونحن نناشدكم الله، هل أنتم كذلك، حتى يمكنكم هذا الجواب بين يدي من لا يبدل القول لديه، ولا يروج الباطل عليه؟
ويقال سادس عشر: كل طائفة منكم - معاشر المقلدين - قد أنزلت جميع الصحابة من أولهم إلى آخرهم، وجميع التابعين من أولهم إلى آخرهم، وجميع علماء الأمة من أولهم إلى آخرهم، إلا من قلدتموه، في مكان لا يعتد بقوله، ولا ينظر في فتواه، ولا يشتغل بها، ولا يعتد بها.
ولا وجه للنظر فيها إلا للتمحل وإعمال الفكر وكده في الرد عليهم، أو خالف قولهم قول متبوعه. وهذا هو المسوغ للرد عليهم عندهم .
فإذا خالف قول متبوعهم نصا من الله ورسوله، فالواجب التمحل والتكلف في إخراج ذلك النص عن دلالته، والتحيل لدفعه بكل طريق، حتى يصح قول متبوعهم.
فيا لله !! لدينه وكتابه وسنة رسوله، ولبدعة كادت تثل عرش الإيمان، وتهد [ ص: 285 ] ركنه، لولا أن الله ضمن لهذا الدين أن لا يزال فيه من يتكلم بإعلامه ويذب عنه .
فمن أسوأ ثناء على الصحابة والتابعين وسائر علماء المسلمين، وأشد استخفافا بحقوقهم، وأقل رعاية لواجبها، وأعظم استهانة بهم، ممن لا يلتفت إلى قول رجل واحد منهم، ولا إلى فتواه غير صاحبه الذي اتخذه وليجة من دون الله ورسوله؟
ويقال سابع عشر: من أعجب أمركم - أيها المقلدون - أنكم اعترفتم وأقررتم على أنفسكم بالعجز عن معرفة الحق بدليله، من كلام الله ورسوله; مع سهولته، وقرب مأخذه، واستيلائه على أقصى غايات البيان، واستحالة التناقض والاختلاف عليه، فهو نقل مصدق عن قائل معصوم.
وقد نصب الله سبحانه الأدلة الظاهرة على الحق، وبين لعباده ما يتقون، فادعيتم العجز عن معرفة ما نصب عليه الأدلة وتولى بيانه، ثم زعمتم أنكم قد عرفتم بالدليل أن صاحبكم أولى بالتقليد من غيره، وأنه أعلم الأمة وأفضلها في زمانه، وهلم جرا.
وغلاة كل طائفة منكم توجب اتباعه، وتحرم اتباع غيره، كما هو في كتب أصولهم.
فعجبا كل العجب لمن خفي عليه الترجيح فيما نصب الله عليه الأدلة من الحق، ولم يهتد إليها، واهتدى إلى أن متبوعه أحق وأولى بالصواب ممن عداه، ولم ينصب الله على ذلك دليلا واحدا !
ويقال ثامن عشر: أعجب من هذا كله من شأنكم - معاشر المقلدين - أنكم إذا وجدتم آية من كتاب الله توافق رأي صاحبكم، أظهرتم أنكم تأخذون بها. والعمدة في نفس الأمر على ما قاله لا على الآية.
وإذا وجدتم آية نظيرها تخالف قوله، لم تأخذوا بها، وتطلبتم لها وجوه التأويل، وإخراجها عن ظاهرها، حيث لم توافق رأيه .
وهكذا تفعلون في نصوص السنة سواء إذا وجدتم حديثا صحيحا يوافق قوله، أخذتم به، وقلتم لنا: قوله صلى الله عليه وسلم-: كيت وكيت .
[ ص: 286 ] وإذا وجدتم مائة حديث صحيح بل أكثر، يخالف قوله، لم تلتفتوا إلى حديث منها، ولم يكن لكم منها حديث واحد، فتقولون لنا: قوله صلى الله عليه وسلم-: كذا وكذا .
وإذا وجدتم مرسلا قد وافق رأيه، أخذتم به، وجعلتموه حجة هناك .
فإذا وجدتم مائة مرسل يخالف رأيه، اطرحتموها كلها من أولها إلى آخرها، وقلتم: لا نأخذ بالمرسل.
ويقال تاسع عشر: أعجب من هذا: أنكم إذا أخذتم بالحديث، مرسلا كان أو مسندا، لموافقته رأي صاحبكم، ثم وجدتم فيه حكما يخالف رأيه، لم تأخذوا به في ذلك الحكم، وهو حديث واحد، وكان الحديث حجة فيما وافق رأي من قلدتموه، وليس بحجة فيما خالف رأيه.