لا لبيت المال ولا لغيره ، وهذا [ ص: 95 ] المال المأخوذ لتعطيل الحد سحت خبيث ، وإذا فعل ولي الأمر ذلك ، فقد جمع فسادين عظيمين . ولا يجوز أن يؤخذ من الزاني أو السارق أو الشارب أو قاطع الطريق أو نحوهم مال ، تعطل به الحدود
أحدهما : تعطيل الحد ، والثاني أكل السحت . فترك الواجب وفعل المحرم قال تعالى : { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يصنعون } .
وقال تعالى عن اليهود : { سماعون للكذب أكالون للسحت } .
لأنهم كانوا يأكلون السحت من الرشوة التي تسمى البرطيل ، وتسمى أحيانا الهدية وغيرها ، ومتى أكل السحت ولي الأمر ، احتاج أن يسمع الكذب من شهادة الزور وغيرها .
وقد { } رواه أهل السنن . [ ص: 96 ] لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الراشي والمرتشي والرائش الواسطة الذي يمشي بينهما
وفي الصحيحين : { أنيس على امرأة هذا فاسألها ، فإن اعترفت فارجمها ، فسألها ، فاعترفت ، فرجمها } أن رجلين اختصما إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال أحدهما : يا رسول الله اقض بيننا بكتاب الله ، فقال صاحبه - وكان أفقه منه - نعم يا رسول الله : اقض بيننا بكتاب الله وأذن لي ، فقال : إن ابني كان عسيفا في أهل هذا - يعني أجيرا فزنى بامرأته ، فافتديت منه بمائة شاة وخادم ، وإن رجالا من أهل العلم أخبروني أن على ابني جلد مائة وتغريب عام ، وأن على امرأة هذا الرجم فقال : والذي نفسي بيده ، لأقضين بينكما بكتاب الله : المائة والخادم رد عليك ، وعلى ابنك جلد مائة وتغريب عام ، واغد يا
ففي هذا الحديث ، أنه لما بذل عن المذنب هذا المال ; لدفع الحد عنه ، أمر النبي صلى الله عليه وسلم بدفع المال إلى صاحبه ، وأمر بإقامة الحد ، ولم يأخذ المال للمسلمين : من المجاهدين والفقراء وغيرهم .
وقد أجمع المسلمون على أن يؤخذ ، أو غيره لا يجوز ، وأجمعوا على أن المال المأخوذ من الزاني ، والسارق والشارب ، والمحارب ، وقاطع الطريق ونحو ذلك لتعطيل الحد ، مال سحت خبيث . [ ص: 97 ] تعطيل الحد بمال
وكثيرا مما يوجد من فساد أمور الناس ، إنما هو تعطيل الحد بمال أو جاه ، وهذا من أكبر الأسباب التي هي فساد أهل البوادي والقرى والأمصار من الأعراب والتركمان ، والأكراد ، والفلاحين وأهل الأهواء كقيس ، ويمن ، وأهل الحاضرة من رؤساء الناس وأعيانهم وفقرائهم ، وأمراء الناس ومقدميهم وجندهم ، وهو سبب سقوط حرمة المتولي ، وسقوط قدره من القلوب ، وانحلال أمره ، فإذا ارتشى وتبرطل على تعطيل حد ضعفت نفسه أن يقيم حدا آخر ، وصار من جنس اليهود الملعونين .
وأصل البرطيل هو الحجر المستطيل ، سميت به الرشوة ; لأنها تلقم المرتشي عن التكلم بالحق كما يلقمه الحجر الطويل ، كما قد جاء في الأثر { إذا دخلت الرشوة من الباب ، خرجت الأمانة من الكوة } . وكذلك إذا أخذ مالا للدولة على ذلك ، مثل السحت الذي يسمى التأديبات .
ألا ترى أن الأعراب المفسدين أخذوا لبعض الناس ، ثم جاءوا إلى ولي الأمر فقادوا إليه خيلا يقدمونها له أو غير ذلك ، كيف يقوى طمعهم في الفساد ، وتنكسر حرمة الولاية والسلطنة ، وتفسد الرعية . وكذلك الفلاحون وغيرهم ، وكذلك شارب الخمر ، إذا أخذ فدفع ماله كيف يطمع الخمارون ، فيرجون إذا أمسكوا أن يقدموا بعض أموالهم ، فيأخذها ذلك الوالي سحتا ، وكذلك ، مثل أن يرتكب بعض الفلاحين جريمة ، ثم يأوي إلى قرية نائب السلطان أو أمير ، فيحمى على الله ورسوله ، فيكون ذلك الذي حماه ، ممن لعنه الله [ ص: 98 ] ورسوله . ذوو الجاه ، إذا أحموا أحدا أن يقام عليه ( الحد
فقد روى في صحيحه عن مسلم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { علي بن أبي طالب } فكل من آوى محدثا من هؤلاء المحدثين ، فقد لعنه الله ورسوله . لعن الله من أحدث حدثا أو آوى محدثا
وإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد قال { } فكيف بمن منع الحدود بقدرته ويده ، واعتاض عن المجرمين بسحت من المال يأخذه ، لا سيما الحدود على سكان البر فإن من أعظم فسادهم حماية المعتدين منهم بجاه أو مال ، سواء كان المال المأخوذ لبيت المال أو للوالي سرا أو علانية ، فذلك جميعه محرم بإجماع المسلمين ، وهو مثل تضمين الحانات والخمر ، فإن من مكن من ذلك ، أو أعان أحدا عليه ، بمال يأخذه منه ، فهو من جنس واحد . إن من حالت شفاعته دون حد من حدود الله ، فقد ضاد الله في أمره
والمال المأخوذ على هذا شبيه ما يؤخذ من مهر البغي وحلوان الكاهن ، وثمن الكلب وأجرة المتوسط في الحرام الذي يسمى القواد .
قال النبي صلى الله عليه وسلم : { } رواه ثمن الكلب خبيث ، ومهر البغي خبيث ، [ ص: 99 ] وحلوان الكاهن خبيث فمهر البغي الذي يسمى حدور القحاب . البخاري
وفي معناه ما يعطاه المخنثون الصبيان من المماليك أو الأحرار على الفجور بهم ، وحلوان الكاهن مثل حلاوة المنجم ونحوه ، على ما يخبر به من الأخبار المبشرة بزعمه ، ونحو ذلك .