[ ص: 217 ] الفصل الثامن وجوب اتخاذ الإمارة
يجب أن يعرف أن بل لا قيام للدين إلا بها ، فإن بني آدم لا تتم مصلحتهم إلا بالاجتماع لحاجة بعضهم إلى بعض ، ولا بد لهم عند الاجتماع من رأس ، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم { ولاية الناس من أعظم واجبات الدين } ، رواه إذا خرج ثلاثة في سفر فليؤمروا أحدهم أبو داود ، من حديث أبي سعيد . وأبي هريرة
وروى الإمام في المسند عن أحمد ، أن النبي قال : { عبد الله بن عمرو لا يحل لثلاثة يكونون بفلاة من الأرض إلا أمروا عليهم أحدهم } فأوجب صلى الله عليه وسلم ، تنبيها على سائر أنواع الاجتماع ، ولأن الله - تعالى - أوجب الأمر [ ص: 218 ] بالمعروف والنهي عن المنكر ولا يتم ذلك إلا بقوة وإمارة . تأمير الواحد في الاجتماع القليل العارض في السفر
وكذلك سائر ما أوجبه من الجهاد والعدل وإقامة الحج والجمع والأعياد ونصر المظلوم ، وإقامة الحدود لا تتم إلا بالقوة والإمارة ولهذا روي : { } ويقال : " ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بلا سلطان " . أن السلطان ظل الله في الأرض
والتجربة تبين ذلك ; ولهذا كان السلف كالفضيل بن عياض وغيرهما يقولون : " لو كان لنا دعوة مجابة لدعونا بها للسلطان " وقال النبي صلى الله عليه وسلم : { وأحمد بن حنبل } ، رواه إن الله ليرضى لكم ثلاثة : أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم مسلم .
وقال : { } . رواه أهل السنن . ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم : إخلاص العمل لله ، ومناصحة ولاة الأمر ، [ ص: 219 ] ولزوم جماعة المسلمين ، فإن دعوتهم تحيط بهم من ورائهم
وفي الصحيح عنه أنه قال : { } . الدين النصيحة ، الدين النصيحة ، الدين النصيحة . قالوا : لمن يا رسول الله ؟ قال : لله ولكتابه ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم
فالواجب ، فإن التقرب إليه فيها ، بطاعته وطاعة رسوله من أفضل القربات ، وإنما يفسد فيها حال أكثر الناس لابتغاء الرياسة أو المال بها . اتخاذ الإمارة دينا وقربة يتقرب بها إلى الله
وقد روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { كعب بن مالك } قال ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من [ ص: 220 ] حرص المرء على المال أو الشرف لدينه الترمذي حديث حسن صحيح
فأخبر أن حرص المرء على المال والرياسة ، يفسد دينه ، مثل أو أكثر من إرسال الذئبين الجائعين لزريبة الغنم .
وقد أخبر الله - تعالى - عن الذي يؤتى كتابه بشماله ، أنه يقول : { ما أغنى عني ماليه ، هلك عني سلطانيه } .
وغاية مريد الرياسة أن يكون كفرعون ، وجامع المال أن يكون كقارون وقد بين الله - تعالى - في كتابه حال فرعون وقارون ، فقال تعالى : { أو لم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين كانوا من قبلهم كانوا أشد منهم قوة وآثارا في الأرض فأخذهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واق } وقال تعالى : { تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين } .
فإن هو معصية الله ، وهؤلاء الملوك والرؤساء المفسدون ، الناس أربعة أقسام : القسم الأول : يريدون العلو على الناس ، والفساد في الأرض كفرعون وحزبه ، وهؤلاء هم شر الخلق قال الله تعالى : { إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبناءهم ويستحيي [ ص: 221 ] نساءهم إنه كان من المفسدين } .
وروى في صحيحه عن مسلم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ابن مسعود } فبطر الحق ، دفعه وجحده ، وغمط الناس ، احتقارهم وازدراؤهم وهذا حال من يريد العلو والفساد . لا يدخل الجنة من في قلبه مثقال ذرة من كبر ، ولا يدخل النار من في قلبه ذرة من إيمان . فقال رجل : يا رسول الله صلى الله عليه وسلم : إني أحب أن يكون ثوبي حسنا ونعلي حسنا . أفمن الكبر ذاك ؟ قال : لا ، إن الله جميل يحب الجمال ، الكبر بطر الحق وغمط الناس ، كالسراق المجرمين من سملة الناس . والقسم الثاني : الذين يريدون الفساد ، بلا علو ، كالذين عندهم دين ، يريدون أن يعلوا به على غيرهم من الناس . والقسم الثالث : يريد العلو بلا فساد ، مع أنهم قد يكونون أعلى من غيرهم كما قال الله تعالى : { القسم الرابع : فهم أهل الجنة الذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين } وقال تعالى : { فلا تهنوا وتدعوا إلى السلم وأنتم الأعلون والله معكم ولن [ ص: 222 ] يتركم أعمالكم } وقال : { ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين } .
فكم ممن يريد العلو ولا يزيده ذلك إلا سفولا ، وكم ممن جعل من الأعلين وهو لا يريد العلو ولا الفساد ، وذلك لأن إرادة العلو على الخلق ظلم ، لأن الناس من جنس واحد ، فإرادة الإنسان أن يكون هو الأعلى ونظيره تحته ، ظلم ، ومع أنه ظلم ، فالناس يبغضون من يكون كذلك ويعادونه ، لأن العادل منهم لا يحب أن يكون مقهورا لنظيره ، وغير العادل منهم يؤثر أن يكون هو القاهر ، ثم إنه مع هذا لا بد له - في العقل والدين من أن يكون بعضهم فوق بعض كما قدمناه ، كما أن الجسد لا يصلح إلا برأس .
قال تعالى : { وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم فيما آتاكم } .
وقال تعالى : { نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضا سخريا } فجاءت الشريعة بصرف السلطان والمال في سبيل الله ، فإذا كان المقصود بالسلطان والمال هو التقرب إلى الله وإنفاق ذلك في سبيله ، كان ذلك صلاح الدين والدنيا .
وإن انفرد السلطان عن الدين ، أو الدين عن السلطان فسدت أحوال الناس ، وإنما يمتاز أهل طاعة الله عن أهل معصيته ، بالنية والعمل الصالح ، كما في الصحيحين عن [ ص: 223 ] النبي صلى الله عليه وسلم : { } . إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ، وإنما ينظر إلى قلوبكم وإلى أعمالكم
ولما غلب على كثير من ولاة الأمور إرادة المال والشرف ، صاروا بمعزل عن حقيقة الإيمان وكمال الدين ، ثم منهم من غلب الدين ، وأعرض عما لا يتم الدين إلا به من ذلك ، ومنهم من رأى حاجته إلى ذلك ، فأخذه معرضا عن الدين ، لاعتقاده أنه مناف لذلك ، وصار الدين عنده في محل الرحمة والذل ، لا في محل العلو والعز ، وكذلك لما غلب على كثير من أهل الديانتين العجز عن تكميل الدين ، والجزع لما قد يصيبهم في إقامته من البلاء ، استضعف طريقتهم واستذلها من رأى أنه لا تقوم مصلحته ومصلحة غيره بها .
وهاتان السبيلان الفاسدتان - سبيل من انتسب إلى الدين ، ولم يكمله بما يحتاج إليه من السلطان والجهاد والمال ، وسبيل من أقبل على السلطان والمال والحرب ، ولم يقصد بذلك إقامة الدين هما سبيل المغضوب عليهم والضالين ، الأولى للضالين النصارى ، والثانية للمغضوب عليهم اليهود
وإنما الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، هي سبيل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم وسبيل خلفائه وأصحابه ، ومن سلك سبيلهم ، وهم السابقون الأولون من [ ص: 224 ] المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان رضي الله عنهم ورضوا عنه ، وأعد لهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا ، ذلك الفوز العظيم .
فالواجب على المسلم أن يجتهد في ذلك بحسب وسعه ، فمن ولي ولاية يقصد بها طاعة الله ، وإقامة ما يمكنه من دينه ، ومصالح المسلمين ، وأقام فيها ما يمكنه من ترك المحرمات ، لم يؤاخذ بما يعجز عنه ، فإن تولية الأبرار خير للأمة من تولية الفجار .
ومن كان عاجزا عن إقامة الدين بالسلطان والجهاد ، ففعل ما يقدر عليه ، من النصيحة بقلبه ، والدعاء للأمة ، ومحبة الخير ، وفعل ما يقدر عليه من الخير ، لم يكلف ما يعجز عنه ، فإن قوام الدين الكتاب الهادي ، والحديث الناصر كما ذكره الله - تعالى - فعلى كل أحد الاجتهاد في إيثار القرآن والحديث لله ولطلب ما عنده مستعينا بالله في ذلك ، ثم الدنيا تخدم الدين ، كما قال رضي الله عنه : " يا بن آدم أنت محتاج إلى نصيبك من الدنيا وأنت إلى نصيبك من الآخرة أحوج ، فإن بدأت بنصيبك من الآخرة مر بنصيبك من الدنيا ، فانتظمها انتظاما ، وإن بدأت بنصيبك من الدنيا فاتك نصيبك من الآخرة ، وأنت من الدنيا على خطر . معاذ بن جبل
ودليل ذلك ما رواه الترمذي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { } . من أصبح والآخرة أكبر همه جمع له شمله وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة ، ومن أصبح والدنيا أكبر همه فرق الله عليه ضيعته ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له
وأصل ذلك في - قوله تعالى : { وما [ ص: 225 ] خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون ما أريد منهم من رزق وما أريد أن يطعمون إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين } .
فنسأل الله العظيم أن يوفقنا وسائر إخواننا المسلمين ، لما يحبه ويرضاه من القول والعمل ، فإنه لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا دائما إلى يوم الدين .