باب في بيع المصراة من الإبل والغنم والبقر
ولا يجوز لقول النبي - صلى الله عليه وسلم: تصرية الماشية لبيع؛ "لا تصروا الإبل والغنم، فمن ابتاعها بعد فإنه بخير النظرين بعد أن يحتلبها إن شاء أمسك، وإن شاء ردها وصاع تمر".
واختلف في العمل بهذا الحديث، فقال فقلت ابن القاسم: أيؤخذ بهذا الحديث، يريد هل يرد معها صاعا؟ قال: نعم. والأخذ بهذا الحديث رأي. لمالك:
وقال في مختصر ما ليس في المختصر: ليس هو بالموطإ ولا بالثابت. مالك
وقال في كتاب محمد: لا يؤخذ به، وقد جاء ما هو أثبت منه: أشهب والأول أصوب، لوجهين أحدهما: ورود النص -وهو [ ص: 4335 ] حديث صحيح أخرجه "الخراج بالضمان". البخاري ومسلم في الموطإ وغيرهم- أن ذلك اللبن مبيع؛ لأنه كان وقت البيع موجودا مجموعا ولم يبق إلا حلابه، وهو بمنزلة الثمرة إذا يبست ولم يبق إلا جذاذها، والصوف إذا تم ولم يبق إلا جزازه، وإنما ومالك فيما يحدث عند المشتري، وإذا كان ذلك فإن كان اللبن قائما وكان حلابه بفور الشراء، رد عينه ولا يغرم بالعوض عنه مع قيامه، وإن كان حلابه بعد ذلك لم يكن عليه رده؛ لأن ما حدث في ضروعها بعد شرائها فهو للمشتري، فكان ذلك الموجود بعضه للبائع وبعضه للمشتري، ولا يدرى ما لكل واحد فيه، وعلى هذا محمل قول مالك في المدونة، أنه لا يرده إذا كان قائما، أن ذلك إذا لم يحلب بحضرة البيع، ولهذا قال: له اللبن بما علف؛ لأن ما حلب بالحضرة لم يكن على العلف. الخراج بالضمان
وقد قيل: في حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - عن اللبن بصاع، إن ذلك لرفع التنازع؛ لأن الأصل أبدا فيه مجهول، قال والصاع من عيش البلد. وإن كان عيشه قمحا أو شعيرا، كان عليه صاع من عيشهم، وذهب بعض أهل العلم إلى ألا يغرم الصاع، إذا كان السعر غالبا، فقد يكون قيمة الصاع نصف قيمة الشاة، فإن غرم المشتري قيمة أعلى ما يرى أنه كان فيها، لم يكن للبائع في ذلك مقال، وخصوا الحديث بالقياس؛ لأن الأصل في المتلفات أن يغرم قيمتها أو مثالها، ولا يحمل الحديث على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ألزم المشتري فوق ما قبض. [ ص: 4336 ] مالك:
وقد قال ابن أبي ليلى يرد قيمة اللبن. وحملوا الحديث أن الصاع كان ذلك الوقت قيمة اللبن. واختلف إذا كان المبيع جماعة غنم، هل يغرم صاعا واحدا، أو لكل شاة صاع؟ وهذا أصوب، فإن كانت الغنم عدة، أكان لكل واحدة حكمها؟ والشاة المصراة والبقرة والناقة في ذلك سواء، يريد عن اللبن الذي بيعت به، وهذا للحديث المتقدم، وقد قيل ذلك لأن لبن الغنم وإن كان أقل فهو أجود ولبن الإبل أدنى وأكثر، فإذا وأبو يوسف: كان له أن يردها قبل الحلاب، وله أن يمسكها ويحلبها ثم يختبرها، وينظر كيف عادتها؟ وهل تنقص التصرية اليسير أم لا؟ وكذلك إن علم بعد أن حلبه ما صريت، فهو بالخيار بين أن يرد الآن، أو يمهل حتى يحلبها ويعلم عادتها. علم المشتري أن الشاة مصراة قبل أن يحلبها، وأن ذلك ليس بعادة لها،
واختلف إذا حلبها الثالثة هل ذلك رضى؟ فقال في المدونة: إن جاء من ذلك ما يعلم أنه اختبرها قبل ذلك فهو رضى، وقال محمد: ذلك رضى.
وقال مالك في كتاب محمد: له أن يرد وإن حلبها الثالثة. وهو أحسن لقول النبي - صلى الله عليه وسلم: أخرجه "من اشترى شاة مصراة فهو بالخيار ثلاثة أيام". البخاري فجعل له الخيار إلى ثلاثة أيام، وإن تحقق قبله العيب قبل ذلك؛ لأن المشتري يريد أن يؤامر نفسه في ذلك، وهل يرضى بذلك العيب أو [ ص: 4337 ] يرد؟ ولأنه خلاف إذا حلبها أول مرة اللبن الذي صريت به، أن له أن يرد الآن؛ لأنه اشترى على أن ذلك عادة لها، وله ألا يعجل بالرد حتى يختبر حلابها، هل هو قدر يرضاه؟ وإن كان يعلم أنه لا يأتي بمثل الأول، وإن ومسلم، لم يكن له رد إلا أن يجدها قليلة الدر دون المعتاد من مثلها، وإن بيعت وهي غير مصراة والبائع يعلم بحلابها، كان له أن يرد كمن باع صبرة وهو يعلم كيلها، وقد تقدم ذكر الاختلاف في هذا الأصل، في كتاب البيوع الفاسدة. اشتراها وهو عالم بأنها مصراة من الأصل،
واختلف فقال إذا اشتراها في غير إبان حلابها، ثم وجدها في إبان الحلاب تحلب دون حلاب مثلها، ليس له أن يرد. وقال أشهب: ذلك له. ابن القاسم:
وقال محمد: أرى أن ينظر في ثمنها، فإن هي في كثرة ثمنها أن شحمها ولحمها لا يساوي ذلك، ولا يبلغه إن هي حملت بعد ذلك، كان له أن يرد متى علم أن البائع كان عالما بحلابها أم يخيره.
وإن اشترط المشتري أنها تحلب كل يوم قسطا، فوجدها تحلب دون ذلك رد إن شاء، ويفترق الجواب فيما حلب. وإن اشترى على أنها إن كانت كذلك كانت له، كان الحلاب للبائع ردا وقيل لأنها على ملك البائع وإن اشتراها في ملكه على التصديق كان الحلاب للمشتري وله الردة لأنها كانت في ضمانه؛ لأن اللبن حدث في ملكه، فأشبه الحلاب الثاني من مصراة.
وقال محمد فيمن اشترى شاة مصراة، فوجد بها عيبا من غير التصرية: لم [ ص: 4338 ] يرد عن اللبن شيئا. وأرى أن ذلك شرعا إذا كان العيب التصرية خاصة، وأرى أن يرد عوض اللبن الذي صرته له كالعيب إذا كان من سبب اللبن. [ ص: 4339 ]