ومنها أن تكون عنايته بتحصيل العلم النافع في الآخرة المرغب في الطاعات مجتنبا للعلوم التي يقل نفعها ويكثر فيها الجدال والقيل والقال .
فمثال من يعرض عن علم الأعمال ويشتغل بالجدال مثل : رجل مريض به علل كثيرة وقد صادف طبيبا حاذقا في وقت ضيق يخشى فواته فاشتغل بالسؤال عن خاصية العقاقير والأدوية وغرائب الطب وترك مهمه الذي هو مؤاخذ به وذلك محض السفه .
وقد روي أن رجلا جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " علمني من غرائب العلم فقال له : ما صنعت في رأس العلم فقال ؟ : وما رأس العلم ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : هل عرفت الرب تعالى ؟ قال : نعم ، قال : فما صنعت في حقه ؟ قال ما شاء الله فقال صلى الله عليه وسلم ، هل عرفت الموت ؟ قال : نعم ، قال : فما أعددت له ؟ قال : ما شاء الله ، قال صلى الله عليه وسلم اذهب فاحكم : ما هناك ، ثم تعال ، نعلمك من غرائب العلم بل ينبغي أن يكون المتعلم من جنس ما روي عن ، تلميذ حاتم الأصم رضي الله عنهما أنه قال له شقيق البلخي : منذ كم صحبتني قال شقيق حاتم : منذ ثلاث وثلاثين سنة ، قال : فما تعلمت مني في هذه المدة ؟ قال : ثماني مسائل ، قال له : إنا لله وإنا إليه راجعون ، ذهب عمري معك ولم تتعلم إلا ثماني مسائل ، قال : يا أستاذ لم أتعلم غيرها وإني لا ، أحب أن أكذب فقال هات هذه الثماني مسائل حتى أسمعها قال شقيق حاتم : نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد يحب محبوبا فهو مع محبوبه إلى القبر فإذا وصل إلى القبر فارقه فجعلت الحسنات محبوبي فإذا دخلت القبر دخل محبوبي معي فقال أحسنت يا حاتم فما الثانية فقال ؟ : نظرت في قول الله عز وجل : وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ، فعلمت أن قوله سبحانه وتعالى هو الحق فأجهدت ، نفسي في دفع الهوى حتى استقرت على طاعة الله تعالى .
الثالثة أني : نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل من معه شيء له قيمة ، ومقدار رفعه وحفظه ثم نظرت إلى قول الله عز وجل ما عندكم ينفذ وما عند الله باق فكلما وقع معي شيء له قيمة ومقدار وجهته إلى الله ليبقى عنده محفوظا .
، الرابعة أني : نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يرجع إلى المال وإلى الحسب والشرف والنسب فنظرت فيها فإذا هي لا شيء ، ثم نظرت إلى قول الله تعالى : إن أكرمكم عند الله أتقاكم فعملت في التقوى حتى أكون عند الله كريما .
الخامسة أني ، نظرت إلى هذا الخلق وهم يطعن بعضهم في بعض ويلعن بعضهم بعضا ، وأصل هذا كله الحسد ، ثم نظرت إلى قول الله عز وجل ، نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا فتركت الحسد واجتنبت الخلق وعلمت أن القسمة من عند الله سبحانه وتعالى فتركت ، عداوة الخلق عني .
السادسة نظرت إلى هذا الخلق يبغي بعضهم على بعض ويقاتل بعضهم بعضا فرجعت إلى قول الله عز وجل : إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا فعاديته وحده واجتهدت في أخذ حذري منه لأن الله تعالى شهد عليه أنه عدو لي فتركت عداوة الخلق غيره .
السابعة نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد منهم يطلب هذه الكسرة فيذل فيها نفسه ويدخل فيما لا يحل له ثم نظرت إلى قوله تعالى : وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها فعلمت أني واحد من هذه الدواب التي على الله رزقها فاشتغلت بما لله تعالى علي وتركت ما لي عنده .
الثامنة نظرت إلى هذا الخلق فرأيتهم كلهم متوكلين على مخلوق ، هذا على ضيعته وهذا على تجارته ، وهذا على صناعته ، وهذا على صحة بدنه وكل مخلوق متوكل على مخلوق مثله فرجعت إلى قوله تعالى ومن يتوكل على الله فهو حسبه فتوكلت على الله عز وجل فهو حسبي قال يا شقيق حاتم ، وفقك الله تعالى فإني نظرت في علوم التوراة والإنجيل والزبور والفرقان العظيم فوجدت جميع أنواع الخير والديانة وهي تدور على هذه الثمان مسائل فمن استعملها ، فقد استعمل الكتب الأربعة فهذا الفن من العلم لا يهتم بإدراكه والتفطن له إلا علماء الآخرة فأما علماء الدنيا ويهملون أمثال هذه العلوم التي بعث الله بها الأنبياء كلهم ، عليهم السلام ، وقال الضحاك بن مزاحم أدركتهم وما يتعلم بعضهم من بعض إلا الورع وهم اليوم ما يتعلمون إلا الكلام ومنها أن يكون غير مائل إلى الترفه في المطعم والمشرب والتنعم في الملبس والتجمل في الأثاث والمسكن بل يؤثر الاقتصاد في جميع ذلك ويتشبه فيه بالسلف رحمهم الله تعالى ويميل إلى الاكتفاء بالأقل في جميع ذلك
فيشتغلون بما يتيسر به اكتساب المال والجاه