فإن قلت فما وما معنى قوته وضعفه فلا بد من فهمه أولا ثم الاشتغال بطلبه وتعلمه فإن ما لا تفهم صورته لا يمكن طلبه فاعلم أن اليقين لفظ مشترك يطلقه فريقان لمعنيين مختلفين أما النظار والمتكلمون فيعبرون به عن عدم الشك إذ ميل النفس إلى التصديق بالشيء له أربع مقامات . معنى اليقين
الأول أن يعتدل ويعبر عنه بالشك كما إذا سئلت عن شخص معين أن الله تعالى يعاقبه أم لا وهو مجهول الحال عندك فإن نفسك لا تميل إلى الحكم فيه بإثبات ولا نفي بل يستوي عندك إمكان الأمرين فيسمى هذا شكا . التصديق والتكذيب
الثاني : ولكنه إمكان لا يمنع ترجيح الأول كما إذا سئلت عن رجل تعرفه بالصلاح والتقوى أنه بعينه لو مات على هذه الحالة هل يعاقب فإن نفسك تميل إلى أنه لا يعاقب أكثر من ميلها إلى العقاب ، وذلك لظهور علامات الصلاح . أن تميل نفسك إلى أحد الأمرين مع الشعور بإمكان نقيضه
ومع هذا فأنت تجوز اختفاء أمر موجب للعقاب في باطنه وسريرته فهذا التجويز مساو لذلك الميل ولكنه غير دافع رجحانه فهذه الحالة تسمى ظنا .
الثالث : أن تميل النفس إلى التصديق بشيء بحيث يغلب عليها ولا يخطر بالبال غيره ولو خطر بالبال تأبى النفس عن قبوله ولكن ، ليس ذلك مع معرفة محققة إذ لو أحسن صاحب هذا المقام التأمل والإصغاء إلى التشكيك والتجويز اتسعت نفسه للتجويز وهذا يسمى اعتقادا مقاربا لليقين وهو اعتقاد العوام في الشرعيات كلها إذ رسخ في نفوسهم بمجرد السماع حتى إن كل فرقة تثق بصحة مذهبها وإصابة إمامها ومتبوعها ولو ذكر لأحدهم ، إمكان خطأ إمامه نفر عن قبوله .
الرابع : المعرفة الحقيقية الحاصلة بطريق البرهان الذي لا يشك فيه ولا يتصور الشك فيه فإذا امتنع وجود الشك وإمكانه يسمى يقينا عند هؤلاء ومثاله أنه إذا قيل للعاقل : هل في الوجود شيء هو قديم ، فلا يمكنه التصديق به بالبديهة لأن القديم غير محسوس لا كالشمس والقمر فإنه يصدق بوجودهما بالحس وليس العلم بوجوده شيء قديم أزلي ضروريا مثل العلم بأن الاثنين أكثر من الواحد ومثل العلم بأن حدوث حادث بلا سبب محال فإن هذا أيضا ضروري فحق غريزة العقل أن تتوقف عن التصديق بوجود القديم على الارتجال والبديهة ثم من الناس من يسمع ذلك ويصدق بالسماع تصديقا جزما ويستمر عليه ، وذلك هو الاعتقاد وهو حال جميع العوام .
ومن الناس من يصدق به بالبرهان وهو أن يقال له : إن لم يكن في الوجود قديم فالموجودات كلها حادثة فإن كانت كلها حادثة فهي حادثة بلا سبب ، أو فيها حادث بلا سبب وذلك محال فالمؤدى إلى المحال محال ، فيلزم في العقل التصديق بوجود شيء قديم بالضرورة لأن الأقسام ثلاثة وهي أن تكون الموجودات كلها قديمة أو كلها حادثة أو بعضها قديمة وبعضها حادثة ، فإن كانت كلها قديمة فقد حصل المطلوب إذ ثبت على الجملة قديم وإن كان الكل حادثا فهو محال إذ يؤدي إلى حدوث بغير سبب فيثبت القسم الثالث أو الأول .
وكل علم حصل على هذا الوجه يسمى يقينا عند هؤلاء سواء حصل بنظر مثل ما ذكرناه ، أو حصل بحس أو بغريزة العقل كالعلم باستحالة حادث بلا سبب أو بتواتر كالعلم بوجود مكة أو بتجربة كالعلم بأن السقمونيا المطبوخ مسهل أو بدليل كما ذكرنا فشرط إطلاق هذا الاسم عندهم عدم الشك فكل علم لا شك فيه يسمى يقينا عند هؤلاء وعلى هذا لا يوصف اليقين بالضعف إذ لا تفاوت في نفي الشك .