ومن هذه الدرجة ، فإن ذلك حلال في الفتوى ولكن يخاف من فتح بابه أن ينجر إلى غيره وتألف النفس الاسترسال وتترك الورع ، فمن ذلك ما روي عن علي بن معبد أنه قال : كنت ساكنا في بيت بكراء فكتبت كتابا وأردت أن آخذ من تراب الحائط لأتربه وأجففه ، ثم قلت : الحائط ليس لي ، فقالت لي نفسي : وما قدر تراب من حائط فأخذت من التراب حاجتي فلما نمت فإذا أنا بشخص واقف يقول : يا الاحتراز عما يتسامح به الناس علي بن معبد سيعلم غدا الذي يقول وما قدر تراب من حائط ولعل معنى ذلك أنه يرى كيف يحط من منزلته ، فإن للتقوى درجة تفوت بفوات ورع المتقين ، وليس المراد به أن يستحق عقوبة على فعله .
ومن ذلك ما روي أن عمر رضي الله عنه وصله مسك من البحرين فقال : وددت لو أن امرأة وزنت حتى أقسمه بين المسلمين فقالت امرأته عاتكة : أنا أجيد الوزن فسكت عنها ثم أعاد القول فأعادت الجواب ، فقال : لا أحببت أن تضعيه بكفة ثم تقولين : فيها أثر الغبار فتمسحين بها عنقك فأصيب بذلك فضلا على المسلمين .
وكان يوزن بين يدي مسك للمسلمين . عمر بن عبد العزيز
فأخذ بأنفه حتى لا تصيبه الرائحة وقال وهل : ينتفع منه إلا بريحه لما استبعد ذلك منه .
وأخذ الحسن رضي الله عنه تمرة من تمر الصدقة وكان صغيرا فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كخ كخ ، أي : ألقها .
ومن ذلك ما روي بعضهم أنه كان عند محتضر فمات ليلا فقال : أطفئوا السراج قد حدث للورثة حق في الدهن .
وروى سليمان التيمي عن نعيمة العطارة قالت كان عمر رضي الله عنه يدفع إلى امرأته طيبا من طيب المسلمين لتبيعه ، فباعتني طيبا ، فجعلت تقوم وتزيد وتنقص وتكسر بأسنانها ، فتعلق بإصبعها شيء منه فقالت به : هكذا بإصبعها ثم مسحت به خمارها ، فدخل رضي الله عنه فقال : ما هذه الرائحة ؟ فأخبرته فقال : طيب المسلمين تأخذينه فانتزع الخمار من رأسها وأخذ جرة من الماء ، فجعل يصب على الخمار ثم يدلكه في التراب ثم يشمه ، ثم يصب الماء ، ثم يدلكه في التراب ويشمه ، حتى لم يبق له ريح قالت ثم أتيتها مرة أخرى ، فلما وزنت علق منه شيء بإصبعها ، فأدخلت إصبعها في فيها ثم مسحت به التراب فهذا من عمر رضي الله عنه ورع التقوى لخوف أداء ذلك إلى غيره وإلا فغسل الخمار ما كان يعيد الطيب إلى المسلمين ولكن أتلفه عليها زجرا وردعا واتقاء من أن يتعدى الأمر إلى غيره . عمر
ومن ذلك ما سئل رحمه الله عن رجل يكون في المسجد يحمل مجمرة لبعض السلاطين ويبخر المسجد بالعود فقال : ينبغي أن يخرج من المسجد ، فإنه لا ينتفع من العود إلا برائحته وهذا قد يقارب الحرام ، فإن القدر الذي يعبق بثوبه من رائحة الطيب قد يقصد وقد يبخل به فلان ، يدري أنه يتسامح به أم لا . أحمد بن حنبل
وسئل عمن سقطت منه ورقة فيها أحاديث ، فهل لمن وجدها أن يكتب منها ثم يردها ؟ فقال : لا بل يستأذن ثم يكتب . أحمد بن حنبل