وعلى الجملة فإذا لم يكن حب السعادة في الآخرة مناقضا لحب الله تعالى فحب السلامة والصحة والكفاية والكرامة في الدنيا كيف يكون مناقضا لحب الله والدنيا والآخرة عبارة عن حالتين إحداهما أقرب من الأخرى ، فكيف يتصور أن يحب الإنسان حظوظ نفسه غدا ، ولا يحبها اليوم ، وإنما يحبها غدا ؛ لأن الغد سيصير حالا راهنة فالحالة الراهنة لا بد إلا أن تكون مطلوبة أيضا إلا أن الحظوظ العاجلة منقسمة إلى ما يضاد حظوظ الآخرة ويمنع منها وهي التي احترز عنها الأنبياء والأولياء وأمروا بالاحتراز عنها ، وإلى ما لا يضاد ، وهي التي لم يمتنعوا منها كالنكاح الصحيح ، وأكل الحلال وغير ذلك فما يضاد حظوظ الآخرة ، فحق العاقل أن يكرهه ولا يحبه أعني أن يكرهه بعقله لا بطبعه كما يكره التناول من طعام لذيذ لملك من الملوك يعلم أنه لو أقدم عليه لقطعت يده أو حزت رقبته لا بمعنى أن الطعام اللذيذ يصير بحيث لا يشتهيه بطبعه ، ولا يستلذه لو أكله ، فإن ذلك محال ، ولكن على معنى أنه يزجره عقله عن الإقدام عليه وتحصل ، فيه كراهة الضرر المتعلق به .
والمقصود من هذا أنه لو أحب أستاذه ؛ لأنه يواسيه ويعلمه أو تلميذه لأنه يتعلم منه ويخدمه وأحدهما حظ عاجل ، والآخر آجل لكان في زمرة المتحابين في الله ولكن بشرط واحد ، وهو أن يكون بحيث لو منعه العلم مثلا أو تعذر عليه تحصيله منه لنقص حبه بسببه ، فالقدر الذي ينقص بسبب فقده هو لله تعالى وله على ذلك القدر ثواب الحب في الله فإن امتنع بعضها نقص حبك وإن زاد زاد الحب فليس حبك الذهب كحبك للفضة إذا تساوى مقدارهما لأن الذهب يوصل إلى أغراض هي أكثر مما توصل إليه الفضة فإذن يزيد الحب بزيادة الغرض ولا ، يستحيل اجتماع الأغراض الدنيوية والأخروية فهو داخل في جملة الحب لله . وليس بمستنكر أن يشتد حبك لإنسان لجملة أغراض ترتبط لك به
وحده هو أن كل حب لولا الإيمان بالله واليوم الآخر لم يتصور وجوده ، فهو حب في الله ، وكذلك كل زيادة في الحب ، لولا الإيمان بالله لم تكن تلك الزيادة فتلك الزيادة من الحب في الله فذلك وإن دق فهو عزيز .
قال الجريري تعامل الناس في القرن الأول بالدين حتى رق الدين وتعاملوا في القرن الثاني بالوفاء حتى ذهب الوفاء وفي الثالث بالمروءة حتى ذهبت المروءة ولم يبق إلا الرهبة والرغبة .