الثانية : أنها في حق قريب العهد بشرب الخمر تذكر مجالس الأنس بالشرب فهي سبب الذكر ، والذكر سبب انبعاث الشوق ، وانبعاث الشوق إذا قوي فهو سبب الإقدام .
ولهذه العلة نهى عن الانتباذ في المزفت والحنتم والنقير .
وهي الأواني التي كانت مخصوصة بها .
فمعنى هذا أن مشاهدة صورتها تذكرها ، وهذه العلة تفارق الأولى إذ ليس فيها اعتبار لذة في الذكر إذ لا لذة في رؤية القنينة وأواني الشرب لكن من حيث التذكر بها ، فإن كان السماع يذكر الشرب تذكيرا يشوق إلى الخمر عند من ألف ذلك مع الشرب فهو منهي عن السماع لخصوص هذه العلة فيه .
الثالثة : الاجتماع عليها لما أن صار من عادة أهل الفسق فيمنع من التشبه بهم ; لأن من تشبه بقوم فهو منهم .
وبهذه العلة نقول بترك السنة مهما صارت شعارا لأهل البدعة خوفا من التشبه بهم .
وبهذه العلة يحرم ضرب الكوبة وهو طبل مستطيل دقيق الوسط واسع الطرفين وضربها عادة المخنثين ولولا ما فيه من التشبه لكان مثل طبل الحجيج والغزو وبهذه العلة نقول لو اجتمع جماعة وزينوا مجلسا وأحضروا آلات الشرب وأقداحه وصبوا فيها السكنجبين ونصبوا ساقيا يدور عليهم ويسقيهم فيأخذون من الساقي ويشربون ويحيي بعضهم بعضا بكلماتهم المعتادة بينهم حرم ذلك عليهم ، وإن كان المشروب مباحا في نفسه لأن في هذا تشبها بأهل الفساد بل لهذا ينهى عن لبس القباء وعن ترك الشعر على الرأس قزعا في بلاد صار القباء فيها من لباس أهل الفساد ولا ينهى عن ذلك فيما وراء النهر لاعتياد أهل الصلاح ذلك فيهم .
فبهذه المعاني حرم وغيرها . المزمار العراقي والأوتار كلها كالعود والصنج والرباب والبربط
وما عدا ذلك فليس في معناها كشاهين الرعاة والحجيج وشاهين الطبالين وكالطبل والقضيب وكل آلة يستخرج منها صوت مستطاب موزون سوى ما يعتاده أهل الشرب ; لأن كل ذلك لا يتعلق بالخمر ولا يذكر بها ولا يشوق إليها ولا يوجب التشبه بأربابها .
فلم يكن في معناها فبقي على أصل الإباحة قياسا على أصوات الطيور وغيرها بل أقول سماع الأوتار ممن يضربها على غير وزن متناسب مستلذ حرام أيضا .
وبهذا يتبين أنه ليست العلة في تحريمها مجرد اللذة الطيبة بل القياس تحليل الطيبات كلها إلا ما في تحليله فساد .
قال الله تعالى قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق فهذه الأصوات لا تحرم من حيث إنها أصوات موزونة وإنما تحرم بعارض آخر .
كما سيأتي في العوارض المحرمة .