اعلم أن وتنزيله على معنى يقع للمستمع ثم يثمر الفهم الوجد ويثمر الوجد الحركة بالجوارح . أول درجة السماع فهم المسموع
فلينظر في هذه المقامات الثلاثة .
المقام الأول في الفهم وهو يختلف باختلاف أحوال المستمع .
وللمستمع أربعة أحوال إحداها : أن يكون سماع بمجرد الطبع أي لا حظ : له في السماع إلا استلذاذ الألحان والنغمات وهذا مباح وهو أخسر رتب السماع إذ الإبل شريكة له فيه وكذا سائر البهائم بل لا يستدعي هذا الذوق إلا الحياة فلكل حيوان نوع تلذذ بالأصوات الطيبة .
الحالة الثانية : أن يسمع بفهم ولكن ينزله على صورة مخلوق إما معينا وإما غير معين وهو سماع الشباب وأرباب الشهوات ويكون تنزيلهم للمسموع على حسب شهواتهم ومقتضى أحوالهم ، وهذه الحالة أخس من أن نتكلم فيها إلا ببيان خستها والنهي عنها. .
الحالة الثالثة أن : ينزل ما يسمعه على أحوال نفسه في معاملته لله تعالى وتقلب أحواله في التمكن مرة والتعذر أخرى ، وهذا سماع المريدين لا سيما المبتدئين فإن للمريد لا محالة مرادا هو مقصده ومقصده معرفة الله سبحانه ولقاؤه والوصول إليه بطريق المشاهدة بالسر وكشف الغطاء وله في مقصده طريق هو سالكه ومعاملات هو مثابر عليها وحالات تستقبله في معاملاته .
فإذا سمع ذكر عتاب أو خطاب أو قبول أو رد أو وصل أو هجر أو قرب أو بعد أو تلهف على فائت أو تعطش إلى منتظر أو شوق إلى وارد أو طمع أو يأس أو وحشة أو استئناس أو وفاء بالوعد أو نقض للعهد أو خوف فراق أو فرح بوصال أو ذكر ملاحظة الحبيب ومدافعة الرقيب أو همول العبرات أو ترادف الحسرات أو طول الفراق أو عدة الوصال أو غير ذلك مما يشتمل على وصفه الأشعار فلا بد أن يوافق بعضها حال المريد في طلبه فيجري ذلك مجرى القدح الذي يوري زناد قلبه فتشتعل به نيرانه ويقوى به انبعاث الشوق وهيجانه ويهجم عليه بسببه أحوال مخالفة لعادته ويكون له مجال رحب في تنزيل الألفاظ على أحواله .
وليس على المستمع مراعاة مراد الشاعر من كلامه بل لكل كلام وجوه ولكل ذي فهم في اقتباس المعنى منه حظوظ .
ولنضرب لهذه التنزيلات والفهوم أمثلة كي لا يظن الجاهل أن المستمع لأبيات فيها ذكر الفم والخد والصدغ إنما يفهم منها ظواهرها .
ولا حاجة بنا إلى ذكر كيفية فهم المعاني من الأبيات ، ففي حكايات أهل السماع ما يكشف عن ذلك .
فقد حكي أن بعضهم سمع قائلا يقول .
قال الرسول غدا تزور فقلت تعقل : ما تقول ؟
فاستفزه اللحن والقول وتواجد وجعل يكرر ذلك ويجعل مكان التاء نونا فيقول : " قال الرسول غدا نزور " حتى غشي عليه من شدة الفرح واللذة والسرور .فلما أفاق سئل عن وجده مم كان فقال ؟ : ذكرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم إن أهل الجنة يزورون ربهم في كل يوم جمعة مرة .
وحكى الرقي عن ابن الدراج أنه قال كنت أنا وابن الفوطي مارين على دجلة بين البصرة والأبلة فإذا بقصر حسن له منظرة وعليه رجل بين يديه جارية تغني وتقول .
كل يوم تتلون غير هذا بك أحسن
فأعادت فكان الشاب يقول : هذا والله تلوني مع الحق في حالي فشهق شهقة ومات، قال: فقلنا: قد استقبلنا فرض فوقفنا فقال صاحب القصر للجارية: أنت حرة لوجه الله تعالى قال ثم إن : أهل البصرة خرجوا فصلوا عليه فلما فرغوا من دفنه قال صاحب القصر أشهدكم أن كل شيء لي في سبيل الله وكل جواري أحرار، وهذا القصر للسبيل ، قال : ثم رمى بثيابه وائتزر بإزار وارتدى بآخر ومر على وجهه والناس ينظرون إليه حتى غاب عن أعينهم وهم يبكون .
فلم يسمع له بعد خبر .
والمقصود أن هذا الشخص كان مستغرق الوقت بحاله مع الله تعالى ومعرفة عجزه عن الثبوت على حسن الأدب في المعاملة وتأسفه على تقلب قلبه وميله عن سنن الحق فلما قرع سمعه ما يوافق حاله سمعه من الله تعالى كأنه يخاطبه ويقول له : .
كل يوم تتلون غير هذا بك أحسن ومن كان سماعه من الله تعالى وعلى الله وفيه .
فينبغي أن يكون قد أحكم قانون العلم في معرفة الله تعالى ومعرفة صفاته .
وإلا خطر له من السماع في حق الله تعالى ما يستحيل عليه ويكفر به .
ففي خطر إلا إذا لم ينزل ما يسمع إلا على حاله من حيث لا يتعلق بوصف الله تعالى . سماع المريد المبتدئ
ومثال الخطأ فيه هذا البيت بعينه فلو سمعه في نفسه وهو يخاطب به ربه عز وجل فيضيف التلون إلى الله تعالى فيكفر وهذا قد يقع عن جهل محض مطلق غير ممزوج بتحقيق وقد يكون عن جهل ساقه إليه نوع من التحقيق وهو أن يرى تقلب أحوال قلبه بل تقلب أحوال سائر العالم من الله ، وهو حق فإنه تارة يبسط قلبه وتارة يقبضه وتارة ينوره وتارة يظلمه وتارة يقسيه وتارة يلينه وتارة يثبته على طاعته ويقويه عليها وتارة يسلط الشيطان عليه ليصرفه عن سنن الحق وهذا كله من الله تعالى .
ومن يصدر منه أحوال مختلفة في أوقات متقاربة فقد يقال له : في العادة إنه ذو بداوات وإنه متلون .
ولعل الشاعر لم يرد به إلا نسبة محبوبة إلى التلون في قبوله ورده وتقريبه وإبعاده وهذا هو ، المعنى .
فسماع هذا كذلك في حق الله تعالى كفر محض بل ينبغي أن يعلم أنه سبحانه وتعالى يلون ولا يتلون ويغير ولا يتغير بخلاف عباده .
وذلك العلم يحصل للمريد باعتقاد تقليدي إيماني .
ويحصل للعارف البصير بيقين كشفي حقيقي .
وذلك من أعاجيب أوصاف الربوبية وهو المغير من غير تغير ولا يتصور ذلك إلا في حق الله تعالى بل كل مغير سواه فلا يغير ما لم يتغير .
فيطلق لسانه بالعتاب مع الله تعالى ويستنكر اقتهاره للقلوب وقسمته ، للأحوال الشريفة على تفاوت . ومن أرباب الوجد من يغلب عليه حال مثل السكر المدهش
فإنه المستصفي لقلوب الصديقين والمبعد لقلوب الجاحدين والمغرورين فلا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ولم يقطع التوفيق عن الكفار لجناية متقدمة ولا أمد الأنبياء عليهم السلام بتوفيقه ونور هدايته لوسيلة ، سابقة ولكنه قال : ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين وقال عز وجل : ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين وقال تعالى : إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون فإن خطر ببالك أنه لم اختلفت السابقة وهم في ربقة العبودية مشتركون نوديت من سرادقات الجلال لا تجاوز حد الأدب فإنه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ولعمري ، تأدب اللسان والظاهر مما يقدر عليه الأكثرون .
فأما تأدب السر عن إضمار الاستبعاد بهذا الاختلاف الظاهر في التقريب والإبعاد والإشقاء والإسعاد مع بقاء السعادة والشقاوة أبد الآباد فلا يقوى عليه إلا العلماء الراسخون في العلم .
ولهذا قال الخضر عليه السلام لما سئل عن السماع في المنام : إنه الصفو الزلال الذي لا يثبت عليه إلا أقدام العلماء لأنه محرك لأسرار القلوب ومكامنها ومشوش لها تشويش السكر المدهش الذي يكاد يحل عقدة الأدب عن السر إلا ممن عصمه الله تعالى بنور هدايته ولطيف عصمته .
ولذلك قال بعضهم : ليتنا نجونا من هذا السماع رأسا برأس .
ففي هذا الفن من السماع خطر يزيد على خطر السماع المحرك للشهوة ، فإن غاية ذلك معصية وغاية الخطأ ههنا كفر .
واعلم أن الفهم قد يختلف بأحوال المستمع أو كلاهما مصيبان وقد فهما معنيين مختلفين متضادين ، ولكنه بالإضافة إلى اختلاف أحوالهما لا يتناقض . فيغلب الوجد على مستمعين لبيت واحد وأحدهما مصيب في الفهم والآخر مخطئ
كما حكي عن عتبة الغلام أنه سمع رجلا يقول:
سبحان جبار السما إن المحب لفي عنا
وسمعه رجل آخر فقال : كذبت .
فقال بعض ذوي البصائر أصابا جميعا وهو الحق فالتصديق كلام محب غير ممكن من المراد بل مصدود متعب بالصد والهجر .
والتكذيب كلام مستأنس بالحب مستلذ لما يقاسيه بسبب فرط حبه غير متأثر به أو كلام محب غير مصدود عن مراده في الحال ولا مستشعر بخطر الصد في المآل .
، وذلك لاستيلاء الرجاء وحسن الظن على قلبه .
فباختلاف هذه الأحوال يختلف الفهم .
وحكي عن أبي القاسم بن مروان وكان قد صحب أبا سعيد الخراز رحمه الله وترك حضور السماع سنين كثيرة فحضر دعوة وفيها إنسان يقول .
:
واقف في الماء عطشان ولكن ليس يسقى
وهذه إشارة إلى إثبات حقيقة وراء الأحوال والكرامات ، والأحوال سوابقها والكرامات تسنح في مباديها والحقيقة بعد لم يقع الوصول إليها .
ولا فرق بين المعنى الذي فهمه وبين ما ذكروه إلا في تفاوت رتبة المتعطش إليه ، فإن المحروم عن الأحوال الشريفة أولا يتعطش إليها فإن مكن منها تعطش إلى ما وراءها فليس بين المعنيين اختلاف في الفهم بل الاختلاف بين الرتبتين .
وكان الشبلي رحمه الله كثيرا ما يتواجد على هذا البيت .
ودادكم هجر وحبكم قلى ووصلكم صرم وسلمكم حرب
فإن ومظهرة صورة الود فما امتلأت منها دار حبرة إلا امتلأت عبرة . الدنيا مكارة خداعة قتالة لأربابها معادية لهم في الباطن
كما ورد في الخبر وكما قال الثعلبي في وصف الدنيا .
تنح عن الدنيا فلا تخطبنها ولا تخطبن قتالة من تناكح
فليس يفي مرجوها بمخوفها ومكروهها أما تأملت راجح
لقد قال فيها الواصفون فأكثروا وعندي لها وصف لعمري صالح سلاف
أنه : ينزله على نفسه في حق الله تعالى فإنه إذا تفكر فمعرفته جهل إذ ما قدروا الله حق قدره .
وطاعته رياء إذ لا يتقي الله حق تقاته وحبه معلول إذ لا يدع شهوة من شهواته في حبه .
فيرى مصداق هذا البيت في نفسه ، وإن كان على المرتبة بالإضافة إلى الغافلين ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : ومن أراد الله به خيرا بصره بعيوب نفسه . لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك
وقال صلى الله عليه وسلم . إني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة
وإنما كان استغفاره عن أحوال هي درجات بعد بالإضافة إلى ما بعدها وإن كانت قربا بالإضافة إلى ما قبلها فلا قرب إلا ويبقى وراءه قرب لا نهاية له إذ سبيل السلوك إلى الله تعالى غير متناه والوصول إلى أقصى درجات القرب محال. .
والمعنى الثالث : أن ينظر في مبادئ أحواله فيرتضيها ثم ينظر في عواقبها فيزدريها لإطلاعه على خفايا الغرور فيها فيرى ذلك من الله تعالى فيستمع البيت في حق الله تعالى شكاية من القضاء والقدر وهذا كفر كما سبق بيانه وما من بيت إلا ويمكن تنزيله على معان وذلك بقدر غزارة علم .
المستمع وصفاء قلبه .
الحالة الرابعة : فعزب عن فهم ما سوى الله تعالى حتى عزب عن نفسه وأحوالها ومعاملاتها وكان كالمدهوش الغائص في بحر عين الشهود الذي يضاهي حاله حال النسوة اللاتي قطعن أيديهن في مشاهدة جمال سماع من جاوز الأحوال والمقامات يوسف عليه السلام حتى دهشن وسقط إحساسهن .
وعن مثل هذه الحالة تعبر الصوفية بأنه قد فني عن نفسه .
ومهما فني عن نفسه فهو عن غيره أفنى ، فكأنه فني عن كل شيء إلا عن الواحد المشهود .
وفني ، أيضا عن الشهود .