فإذا قد رجع حاصل الوجد إلى مكاشفات وإلى حالات واعلم أن كل واحد منهما ينقسم إلى ما يمكن التعبير عنه عند الإفاقة منه وإلى ما لا تمكن العبارة عنه أصلا .
ولعلك تستبعد حالة أو علما لا تعلم حقيقته ، ولا يمكن التعبير عنه عن حقيقته فلا تستبعد ذلك ، فإنك تجد في أحوالك القريبة لذلك شواهد .
أما العلم ، فكم من فقيه تعرض عليه مسألتان متشابهتان في الصورة ويدرك الفقيه بذوقه أن بينهما فرقا في الحكم ، وإذا كلف ذكر وجه الفرق لم يساعده اللسان على التعبير وإن كان من أفصح الناس فيدرك بذوقه الفرق ولا يمكنه التعبير عنه ، وإدراكه الفرق علم يصادفه في قلبه بالذوق ، ولا يشك في أن لوقوعه في قلبه سببا ، وله عند الله تعالى حقيقة ، ولا يمكنه الإخبار عنه لا لقصور في لسانه بل لدقة المعنى في نفسه عن أن تناله العبارة .
وهذا مما قد تفطن له المواظبون على النظر في المشكلات .
وأما الحال فكم من إنسان يدرك في قلبه في الوقت الذي يصبح فيه قبضا أو بسطا ، ولا يعلم سببه ، وقد يتفكر إنسان في شيء فيؤثر في نفسه أثرا فينسى ذلك السبب ويبقى الأثر في نفسه وهو يحس به وقد تكون الحالة التي يحسها سرورا ثبت في نفسه بتفكره في سبب موجب للسرور أو حزنا فينسى المتفكر فيه ويحس بالأثر عقيبه .
وقد تكون تلك الحالة حالة غريبة لا يعرب عنها لفظ السرور والحزن ، ولا يصادف لها عبارة مطابقة مفصحة عن المقصود بل ذوق الشعر الموزون والفرق بينه وبين غير الموزون يختص به بعض الناس دون بعض وهي حالة يدركها صاحب الذوق بحيث لا يشك فيها ، أعني التفرقة بين الموزون والمنزحف فلا يمكنه التعبير عنها بما يتضح مقصوده لمن لا ذوق له .
وفي النفس أحوال غريبة هذا وصفها بل وأما الأوتار وسائر النغمات التي ليست مفهومة فإنها تؤثر في النفس تأثيرا عجيبا ، ولا يمكن التعبير عن عجائب تلك الآثار ، وقد يعبر عنها بالشوق ولكن شوق لا يعرف صاحبه المشتاق إليه فهو عجيب والذي اضطرب قلبه بسماع الأوتار أو الشاهين وما أشبهه ليس يدري إلى ماذا يشتاق ويجد في نفسه حالة كأنها تتقاضى أمرا ليس يدري ما هو حتى يقع ذلك للعوام ومن لا يغلب على قلبه لا حب آدمي ولا حب الله تعالى . المعاني المشهورة من الخوف والحزن والسرور إنما تحصل في السماع عن غناء مفهوم
وهذا له سر وهو أن كل شوق فله ركنان .
أحدهما : صفة المشتاق ، وهو نوع مناسبة مع المشتاق إليه .
والثاني : معرفة المشتاق إليه ، ومعرفة صورة الوصول إليه ، فإن وجدت الصفة التي بها الشوق ووجد العلم بصورة المشتاق إليه كان الأمر ظاهرا وإن لم يوجد العلم بالمشتاق ووجدت الصفة المشوقة وحركت قلبك الصفة واشتعلت نارها أورث ذلك دهشة وحيرة لا محالة .
ولو نشأ آدمي وحده بحيث لم ير صورة النساء ولا عرف صورة الوقاع ثم راهق الحلم وغلبت عليه الشهوة لكان يحس من نفسه بنار الشهوة ولكن لا يدري أنه يشتاق إلى الوقاع ; لأنه ليس يدري صورة الوقاع ولا يعرف صورة النساء فكذلك في نفسه الآدمي مناسبة مع العالم الأعلى واللذات التي وعد بها في سدرة المنتهى والفراديس العلا إلا أنه لم يتخيل من هذه الأمور إلا الصفات والأسماء كالذي سمع لفظ الوقاع واسم النساء ولم يشاهد صورة امرأة قط ، ولا صورة رجل ولا صورة نفسه في المرآة ليعرف بالمقايسة فالسماع يحرك منه الشوق والجهل المفرط والاشتغال بالدنيا قد أنساه نفسه وأنساه ربه وأنساه مستقره الذي إليه حنينه واشتياقه بالطبع فيتقاضاه قلبه أمرا ليس يدري ما هو فيدهش ويتحير ويضطرب ويكون كالمختنق الذي لا يعرف طريق الخلاص ، فهذا وأمثاله من الأحوال التي لا يدرك تمام حقائقها ولا يمكن المتصف بها أن يعبر عنها .
فقد ظهر إلى ما يمكن إظهاره ، وإلى ما لا يمكن إظهاره . انقسام الوجد
واعلم أيضا أن الوجد ينقسم إلى هاجم وإلى متكلف ويسمى التواجد وهذا التواجد المتكلف فمنه مذموم وهو الذي يقصد به الرياء وإظهار الأحوال الشريفة مع الإفلاس منها ومنه ما هو محمود وهو التوصل إلى استدعاء الأحوال الشريفة واكتسابها واجتلابها بالحيلة ، فإن للكسب مدخلا في جلب الأحوال الشريفة ، ولذلك أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم من لم يحضره البكاء في قراءة القرآن أن يتباكى ويتحازن .
فإن هذه الأحوال قد تتكلف مباديها ثم تتحقق أواخرها .
وكيف لا يكون التكلف سببا في أن يصير المتكلف في الآخرة طبعا وكل من يتعلم القرآن أو لا يحفظه تكلفا ويقرؤه تكلفا مع تمام التأمل وإحضار الذهن ثم يصير ذلك ديدنا للسان مطردا حتى يجري به لسانه في الصلاة وغيرها وهو غافل فيقرأ تمام السورة وتثوب نفسه إليه بعد انتهائه إلى آخرها ، ويعلم أنه قرأها في حال غفلته ، وكذلك الكاتب يكتب في الابتداء بجهد شديد ثم تتمرن على الكتابة يده فيصير الكتب له طبعا فيكتب أوراقا كثيرة وهو مستغرق القلب بفكر آخر ، فجميع ما تحتمله النفس والجوارح من الصفات لا سبيل إلى اكتسابه إلا بالتكلف والتصنع أولا ثم يصير بالعادة طبعا ، وهو المراد بقول بعضهم : العادة طبيعة خامسة .
فكذلك الأحوال الشريفة لا ينبغي أن يقع اليأس منها عند فقدها ، بل ينبغي أن يتكلف اجتلابها بالسماع وغيره فلقد شوهد في العادات من اشتهى أن يعشق شخصا ولم يكن يعشقه فلم يزل يردد ذكره على نفسه ويديم النظر إليه ويقرر على نفسه الأوصاف المحبوبة والأخلاق المحمودة فيه حتى عشقه ، ورسخ ذلك في قلبه رسوخا خرج عن حد اختياره فاشتهى بعد ذلك الخلاص منه فلم يتخلص فكذلك حب الله تعالى والشوق إلى لقائه والخوف من سخطه وغير ذلك من الأحوال الشريفة إذا فقدها الإنسان فينبغي أن يتكلف اجتلابها بمجالسة الموصوفين بها ومشاهدة أحوالهم وتحسين صفاتهم في النفس وبالجلوس معهم في السماع وبالدعاء والتضرع إلى الله تعالى في أن يرزقه تلك الحلة بأن ييسر له أسبابها .
ومن أسبابها . السماع ومجالسة الصالحين والخائفين والمحسنين والمشتاقين والخاشعين
فمن جالس شخصا سرت إليه صفاته من حيث لا يدري .
ويدل على إمكان تحصيل الحب وغيره من الأحوال بالأسباب قول رسول الله صلى الله عليه وسلم في دعائه : . اللهم ارزقني حبك وحب من أحبك وحب من يقربني إلى حبك
فقد فزع صلى الله عليه وسلم إلى الدعاء في طلب الحب .