وأما الشرط الثالث : وهو العدالة ، فقد اعتبرها قوم وقالوا : وربما استدلوا فيه بالنكير الوارد على من يأمر بما لا يفعله مثل قوله تعالى : ليس للفاسق أن يحتسب أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ، وقوله تعالى : كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون وبما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : مررت ليلة أسري بي بقوم تقرض شفاههم بمقاريض من نار ، فقلت : من أنتم ؟ فقالوا : كنا نأمر بالخير ولا نأتيه ، وننهى عن الشر ونأتيه .
وبما روي أن الله تعالى أوحى إلى عيسى صلى الله عليه وسلم عظ نفسك ؛ فإن اتعظت فعظ الناس ، وإلا فاستحي مني .
وربما استدلوا من طريق القياس بأن هداية الغير فرع للاهتداء وكذلك تقويم الغير فرع للاستقامة والإصلاح زكاة عن نصاب الصلاح فمن ليس بصالح في نفسه فكيف يصلح غيره ومتى يستقيم الظل والعود أعوج وكل ما ذكروه خيالات وإنما الحق أن للفاسق أن يحتسب ، وبرهانه هو أن نقول : فإن شرط ذلك فهو خرق للإجماع ثم حسم لباب الاحتساب إذ لا عصمة للصحابة فضلا عمن دونهم هل يشترط في الاحتساب أن يكون متعاطيه معصوما عن المعاصي كلها ، والقرآن العزيز دال على نسبة والأنبياء عليهم السلام قد اختلف في عصمتهم عن الخطايا آدم عليه السلام إلى المعصية وكذا جماعة من الأنبياء .
ولهذا قال إن لم يأمر بالمعروف ولم ينه عن المنكر إلا من لا يكون فيه شيء ، لم يأمر أحد بشيء فأعجب سعيد بن جبير ذلك من مالكا سعيد بن جبير وإن زعموا أن ذلك لا يشترط عن الصغائر حتى يجوز للابس الحرير أن يمنع من الزنا وشرب الخمر فنقول: وهل لشارب الخمر أن يغزو الكفار، ويحتسب عليهم بالمنع من الكفر ؟ فإن قالوا : لا خرقوا الإجماع ؛ إذ جنود المسلمين لم تزل مشتملة على البر والفاجر وشارب الخمر وظالم الأيتام ولم يمنعوا من الغزو لا في عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا بعده فإن قالوا : نعم فنقول : شارب الخمر هل له المنع من القتل أم لا ؟ فإن قالوا : لا ، قلنا : فما الفرق بينه وبين لابس الحرير إذ جاز له المنع من الخمر ، والقتل كبيرة بالنسبة إلى الشرب ، كالشرب بالنسبة إلى لبس الحرير ، فلا فرق ، وإن قالوا : نعم وفصلوا الأمر فيه بأن كل مقدم على شيء فلا يمنع عن مثله ولا عما دونه ، وإنما يمنع عما فوقه ، فهذا تحكم فإنه كما لا يبعد أن يمنع الشارب من الزنا والقتل ، فمن أين يبعد أن يمنع الزاني من الشرب ؟ بل من أين يبعد أن يشرب ويمنع غلمانه وخدمه من الشرب ويقول : يجب علي الانتهاء والنهي ؟ فمن أين يلزمني من العصيان بأحدهما أن أعصي الله تعالى بالثاني وإذا كان النهي واجبا علي فمن أين يسقط وجوبه بإقدامي؟ إذ يستحيل أن يقال: يجب النهي عن شرب الخمر عليه ما لم يشرب ، فإذا شرب سقط النهي فإن قيل : فيلزم على هذا أن يقول القائل : الواجب علي الوضوء والصلاة ، فأنا أتوضأ وإن لم أصل وأتسحر وإن لم أصم؛ لأن المستحب لي السحور والصوم جميعا ولكن يقال : أحدهما مرتب على الآخر ، فكذلك تقويم الغير مرتب على تقويمه بنفسه فليبدأ بنفسه ثم بمن يعول والجواب أن التسحر يراد للصوم ولولا الصوم لما كان التسحر مستحبا وما يراد لغيره لا ينفك عن ذلك الغير ، وإصلاح الغير لا يراد لإصلاح النفس ، ولا إصلاح النفس لإصلاح الغير ، فالقول بترتب أحدهما على الآخر تحكم وأما الوضوء والصلاة فهو لازم ، فلا جرم أن من توضأ ولم يصل كان مؤديا أمر الوضوء وكان عقابه أقل من عقاب من ترك الصلاة والوضوء جميعا ، فليكن من ترك النهي والانتهاء أكثر عقابا ممن نهى ولم ينته كيف والوضوء شرط لا يراد لنفسه ، بل للصلاة ؟ فلا حكم له دون الصلاة، وأما الحسبة فليست شرطا في الانتهاء والائتمار فلا مشابهة بينهما ، فإن قيل : فيلزم على هذا أن يقال : إذا زنى الرجل بامرأة ، وهي مكرهة مستورة الوجه ، فكشفت وجهها باختيارها ، فأخذ الرجل يحتسب في أثناء الزنا ، ويقول: أنت مكرهة في الزنا ومختارة في كشف الوجه لغير محرم وها أنا غير محرم لك فاستري وجهك فهذا احتساب شنيع يستنكره قلب كل عاقل ، ويستشنعه كل طبع سليم فالجواب أن الحق قد يكون شنيعا وأن الباطل قد يكون مستحسنا بالطباع ، والمتبع الدليل دون نفرة الأوهام والخيالات ، فإنا نقول : قوله لها في تلك الحالة : لا تكشفي وجهك واجب أو مباح أو حرام فإن قلتم : إنه واجب فهو الغرض لأن الكشف معصية ، والنهي عن المعصية حق ، وإن قلتم : إنه مباح فإذن له أن يقول ما هو مباح ، فما معنى قولكم : ليس للفاسق الحسبة؟ وإن قلتم: إنه حرام ، فنقول وكان : هذا واجبا ، فمن أين حرم بإقدامه على الزنا؟ ومن الغريب أن يصير الواجب حراما بسبب ارتكاب حرام آخر ، وأما نفرة الطباع عنه واستنكارها له فهو لسببين ، أحدهما أنه ترك الأهم واشتغل بما هو مهم وكما أن الطباع تنفر عن ترك المهم إلى ما لا يعني فتنفر عن ترك الأهم والاشتغال بالمهم كما تنفر عمن يتحرج عن تناول طعام مغصوب وهو مواظب على الربا وكما تنفر عمن يتصاون عن الغيبة ويشهد بالزور ؛ لأن الشهادة بالزور أفحش وأشد من الغيبة التي هي إخبار عن كائن يصدق فيه المخبر، وهذا الاستبعاد في النفوس لا يدل على أن ترك الغيبة ليس بواجب ، وأنه لو اغتاب أو أكل لقمة من حرام لم تزد بذلك عقوبته، فكذلك ضرره في الآخرة من معصيته أكثر من ضرره من معصية غيره، فاشتغاله عن الأقل بالأكثر مستنكر في الطبع ، من حيث إنه ترك الأكثر، لا من حيث إنه أتى بالأقل، فمن غصب فرسه ولجام فرسه فاشتغل بطلب اللجام وترك الفرس نفرت عنه الطباع ويرى مسيئا إذ قد صدر منه طلب اللجام ، وهو غير منكر ، ولكن المنكر تركه لطلب الفرس بطلب اللجام ، فاشتد الإنكار عليه لتركه الأهم بما دونه ، فكذلك تستبعد من هذا الوجه ، وهذا لا يدل على أن حسبته من حيث إنها حسبة مستنكرة . حسبة الفاسق