فإن قيل : أفتثبت ولاية والعبد على المولى ، والزوجة على الزوج ، والتلميذ على الأستاذ ، والرعية على الوالي مطلقا ، كما يثبت للوالد على الولد ، والسيد على العبد ، والزوج على الزوجة ، والأستاذ على التلميذ ، والسلطان على الرعية ، أو بينهما فرق ؟ فاعلم أن الذي نراه أنه يثبت أصل الولاية ، ولكن بينهما فرق في التفصيل ، ولنفرض ذلك في الولد مع الوالد فنقول : قد رتبنا الحسبة للولد على الوالد ، ، وللولد الحسبة بالرتبتين الأوليين وهما : التعريف ، ثم الوعظ والنصح باللطف وليس له الحسبة بالسب والتعنيف والتهديد ولا بمباشرة الضرب وهما الرتبتان الأخيرتان ، وهل له الحسبة بالرتبة الثالثة حيث تؤدي إلى أذى الوالد وسخطه هذا فيه نظر وهو بأن يكسر مثلا عوده ويريق خمره، ويحل الخيوط عن ثيابه المنسوجة من الحرير، ويرد إلى الملاك ما يجده في بيته من المال الحرام الذي غصبه أو سرقه أو أخذه عن إدرار رزق من ضريبة المسلمين، إذا كان صاحبه معينا ويبطل الصور المنقوشة على حيطانه ، والمنقورة في خشب بيته ، ويكسر أواني الذهب والفضة ، فإن فعله في هذه الأمور ليس يتعلق بذات الأب ، بخلاف الضرب والسب ولكن الوالد يتأذى به ويسخط بسببه ، إلا أن فعل الولد حق ، وسخط الأب منشؤه حبه للباطل وللحرام ، والأظهر في القياس أنه يثبت للولد ذلك ، بل يلزمه أن يفعل ذلك ولا يبعد أن ينظر فيه إلى قبح المنكر ، وإلى مقدار الأذى والسخط فإن كان المنكر فاحشا ، وسخطه عليه قريبا ، كإراقة خمر من لا يشتد غضبه ، فذلك ظاهر وإن كان المنكر قريبا والسخط شديدا، كما لو كانت له آنية من بلور أو زجاج على صور حيوان، وفي كسرها خسران مال كثير، فهذا مما يشتد فيه الغضب، وليس تجري هذه المعصية مجرى الخمر وغيره، فهذا كله مجال النظر فإن قيل: ومن أين قلتم : ليس له الحسبة بالتعنيف والضرب والإرهاق إلى ترك الباطل ، والأمر بالمعروف في الكتاب والسنة ورد عاما من غير تخصيص وأما النهي عن التأفيف والإيذاء فقد ورد وهو خاص فيما لا يتعلق بارتكاب المنكرات فنقول : قد ورد في حق الأب على الخصوص ما يوجب الاستثناء من العموم ؛ إذ لا خلاف في أن الجلاد ليس له أن يقتل أباه في الزنا حدا ولا له أن يباشر إقامة الحد عليه ، بل لا يباشر قتل أبيه الكافر ، بل لو قطع يده لم يلزمه قصاص ، ولم يكن له أن يؤذيه في مقابلته وقد ورد في ذلك أخبار ، وثبت بعضها بالإجماع . للحسبة خمس مراتب
فإذا لم يجز له إيذاؤه بعقوبة هي حق على جناية سابقة ، فلا يجوز له إيذاؤه بعقوبة هي منع عن جناية مستقبلة متوقعة ، بل أولى ، وهذا الترتيب أيضا ينبغي أن يجري في العبد والزوجة مع السيد والزوج، فهما قريبان من الولد في لزوم الحق ، وإن كان ملك اليمين آكد من ملك النكاح ، ولكن في الخبر أنه : وهذا يدل على تأكيد الحق أيضا وأما الرعية مع السلطان فالأمر فيها أشد من الولد ، فليس لها معه إلا التعريف والنصح فأما الرتبة الثالثة ففيها نظر من حيث إن الهجوم على أخذ الأموال من خزانته ، وردها إلى الملاك، وعلى تحليل الخيوط من ثيابه الحرير، وكسر آنية الخمور في بيته يكاد يفضي إلى خرق هيبته وإسقاط حشمته وذلك محظور ، ورد النهي عنه . لو جاز السجود لمخلوق لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها
كما ورد فقد تعارض فيه أيضا محذوران ، والأمر فيه موكول إلى اجتهاد منشؤه النظر في تفاحش المنكر ومقدار ما يسقط من حشمته بسبب الهجوم عليه ، وذلك مما لا يمكن ضبطه وأما التلميذ والأستاذ فالأمر فيما بينهما أخف ؛ لأن المحترم هو الأستاذ المفيد للعلم من حيث الدين ، ولا حرمة لعالم لا يعمل بعلمه ؛ فله أن يعامله بموجب علمه الذي تعلمه منه وروي أنه سئل النهي عن السكوت على المنكر الحسن عن الولد كيف يحتسب على والده ، فقال : يعظه ما لم يغضب فإن غضب سكت عنه .