. الركن الثالث : المحتسب عليه
وشرطه أن يكون بصفة يصير الفعل الممنوع منه في حقه منكرا ، وأقل ما يكفي في ذلك أن يكون إنسانا ، ولا يشترط كونه مكلفا ؛ إذ بينا أن الصبي لو شرب الخمر منع منه ، واحتسب عليه ، وإن كان قبل البلوغ ، ولا يشترط كونه مميزا ؛ إذ بينا أن المجنون لو كان يزني بمجنونة ، أو يأتي بهيمة ، منعه منه نعم من الأفعال ما لا يكون منكرا في حق المجنون ، كترك الصلاة والصوم وغيره ولكنا لسنا نلتفت إلى اختلاف التفاصيل ؛ فإن ذلك أيضا مما يختلف فيه المقيم والمسافر والمريض والصحيح ، وغرضنا الإشارة إلى الصفة التي بها يتهيأ توجه أصل الإنكار عليه ، لا ما بها يتهيأ للتفاصيل ، فإن قلت : فاكتف بكونه حيوانا ، ولا تشترط كونه إنسانا ؛ فإن البهيمة لو كانت تفسد زرعا لإنسان لكنا نمنعها منه ، كما نمنع المجنون من الزنا وإتيان البهيمة فاعلم أن تسمية ذلك حسبة لا وجه لها ؛ إذ الحسبة عبارة عن المنع عن منكر لحق الله ؛ صيانة للممنوع عن مقارفة المنكر ومنع المجنون عن الزنا وإتيان البهيمة لحق الله ، وكذا منع الصبي عن شرب الخمر والإنسان إذا أتلف زرع غيره منع منه لحقين ، أحدهما : حق الله تعالى ; فإن فعله معصية والثاني : حق المتلف عليه ، فهما علتان تنفصل إحداهما عن الأخرى فلو قطع طرف غيره بإذنه ، فقد وجدت المعصية وسقط حق المجني عليه بإذنه فتثبت الحسبة ، والمنع بإحدى العلتين ، والبهيمة إذا أتلفت فقد عدمت المعصية ، ولكن يثبت المنع بإحدى العلتين ولكن فيه دقيقة ، وهو أنا لسنا نقصد بإخراج البهيمة منع البهيمة ، بل حفظ مال المسلم إذ البهيمة لو أكلت ميتة أو شربت من إناء فيه خمر أو ماء مشوب بخمر لم نمنعها منه ، بل يجوز إطعام كلاب الصيد الجيف والميتات ولكن مال المسلم إذا تعرض للضياع وقدرنا على حفظه بغير تعب وجب ذلك علينا ؛ حفظا للمال ، بل لو وقعت جرة لإنسان من علو وتحتها قارورة لغيره فتدفع الجرة؛ لحفظ القارورة لا لمنع الجرة من السقوط فإنا لا نقصد منع الجرة وحراستها من أن تصير كاسرة للقارورة ، ونمنع المجنون من الزنا وإتيان البهيمة وشرب الخمر ، وكذا الصبي ، لا صيانة للبهيمة المأتية أو الخمر المشروب ، بل صيانة للمجنون عن شرب الخمر، وتنزيها له من حيث إنه إنسان محترم ، فهذه لطائف دقيقة لا يتفطن لها إلا المحققون ؛ فلا ينبغي أن يغفل عنها ثم فيما يجب تنزيه الصبي والمجنون عنه نظر ؛ إذ قد يتردد في منعهما من لبس الحرير وغير ذلك ، وسنتعرض لما نشير إليه في الباب الثالث فإن قلت : فكل من رأى بهائم قد استرسلت في زرع إنسان فهل يجب عليه إخراجها وكل من رأى مالا لمسلم أشرف على الضياع هل يجب عليه حفظه فإن قلتم : إن ذلك واجب ؛ فهذا تكليف شطط يؤدي إلى أن يصير الإنسان مسخرا لغيره طول عمره ، وإن قلتم : لا يجب؛ فلم يجب الاحتساب على من يغصب مال غيره ، وليس له سبب سوى مراعاة مال الغير؟ فنقول: هذا بحث دقيق غامض ، والقول الوجيز فيه أن نقول : مهما قدر على حفظه من الضياع من غير أن يناله تعب في بدنه ، أو خسران في ماله ، أو نقصان جاهه وجب عليه ذلك ، فذلك القدر واجب في حقوق المسلم بل هو أقل درجات الحقوق ، والأدلة الموجبة لحقوق المسلمين كثيرة ، وهذا أقل درجاتها ، وهو أولى بالإيجاب من رد السلام فإن الأذى في هذا أكثر من الأذى في ترك رد السلام بل لا خلاف في أن مال الإنسان إذا كان يضيع بظلم ظالم وكان عند الشهادة لو تكلم بها لرجع الحق إليه ، وجب عليه ذلك وعصى بكتمان الشهادة ، ففي معنى ترك الشهادة ترك كل دفع لا ضرر على الدافع فيه فأما إن كان عليه تعب أو ضرر في مال أو جاه لم يلزمه ذلك؛ لأن حقه مرعي في منفعة بدنه، وفي ماله وجاهه، كحق غيره، فلا يلزمه أن يفدي غيره بنفسه، نعم، الإيثار مستحب وتجشم المصاعب لأجل المسلمين قربة فأما إيجابها فلا، فإذا إن كان يتعب بإخراج البهائم عن الزرع لم يلزمه السعي في ذلك ولكن إذا كان لا يتعب بتنبيه صاحب الزرع من نوم أو بإعلامه يلزمه؛ فإهمال تعريفه وتنبيهه كإهماله تعريف القاضي بالشهادة ، وذلك لا رخصة فيه ولا يمكن أن يراعى فيه الأقل والأكثر حتى يقال : إن كان لا يضيع من منفعته في مدة اشتغاله بإخراج البهائم إلا قدر درهم مثلا ، وصاحب الزرع يفوته مال كثير فيترجح جانبه؛ لأن الدرهم الذي له هو يستحق حفظه، كما يستحق صاحب الألف حفظ الألف ولا ، سبيل للمصير إلا ذلك فأما إذا كان فوات المال بطريق هو معصية كالغصب ، أو قتل عبد مملوك للغير ، فهذا يجب المنع منه ، وإن كان فيه تعب ما لأن المقصود حق الشرع ، والغرض دفع المعصية ، وعلى الإنسان أن يتعب نفسه في دفع المعاصي كما عليه أن يتعب نفسه في ترك المعاصي ، والمعاصي كلها في تركها تعب وإنما الطاعة كلها ترجع إلى مخالفة النفس وهي غاية التعب ثم لا يلزمه احتمال كل ضرر ، بل التفصيل فيه كما ذكرناه من درجات المحذورات التي يخافها المحتسب، وقد اختلف الفقهاء في مسألتين تقربان من غرضنا، إحداهما أن . الالتقاط هل هو واجب واللقطة ضائعة
والملتقط مانع من الضياع وساع في الحفظ والحق فيه عندنا أن يفصل ويقال : إن كانت اللقطة في موضع لو تركها فيه لم تضع ، بل يلتقطها من يعرفها ، أو تترك كما لو كان في مسجد أو رباط يتعين من يدخله ، وكلهم أمناء ، فلا يلزمه الالتقاط ، وإن كانت في مضيعة .
نظر ، فإن كان عليه تعب في حفظها ، كما لو كانت بهيمة وتحتاج إلى علف وإصطبل فلا يلزمه ذلك ؛ لأنه إنما يجب الالتقاط لحق المالك ، وحقه بسبب كونه إنسانا محترما ، والملتقط أيضا إنسان ، وله حق في أن لا يتعب لأجل غيره ، كما لا يتعب غيره لأجله فإن كانت ذهبا أو ثوبا أو شيئا لا ضرر عليه فيه إلا مجرد تعب التعريف فهذا ينبغي أن يكون في محل الوجهين ، فقائل يقول : التعريف والقيام بشرطه فيه تعب؛ فلا سبيل إلى إلزامه ذلك إلا أن يتبرع فيلتزم طبقا للثواب ، وقائل يقول : إن هذا القدر من التعب مستصغر بالإضافة إلى مراعاة حقوق المسلمين فينزل هذا منزلة تعب الشاهد في حضور مجلس الحكم ؛ فإنه لا يلزمه السفر إلى بلدة أخرى إلا أن يتبرع به فإذا كان مجلس القاضي في جواره لزمه الحضور ، وكان التعب بهذه الخطوات لا يعد تعبا في غرض إقامة الشهادة وأداء الأمانة ، وإن كان في الطرف الآخر من البلد وأحوج إلى الحضور في الهاجرة وشدة الحر فهذا قد يقع في محل الاجتهاد والنظر فإن الضرر الذي ينال الساعي في حفظ حق الغير له طرف في القلة لا يشك في أنه لا يبالي به ، وطرف في الكثرة لا يشك في أنه لا يلزم احتماله ، ووسط يتجاذبه الطرفان ، ويكون أبدا في محل الشبهة والنظر ، وهي من الشبهات المزمنة .
التي ليس في مقدور البشر إزالتها ؛ إذ لا علة تفرق بين أجزائها المتقاربة ، ولكن المتقي ينظر فيها لنفسه ، ويدع ما يريبه إلا ما لا يريبه .
فهذا نهاية الكشف عن هذا الأصل .