ولما علم المتصلبون في الدين أن وأن صاحب ذلك إذا قتل فهو شهيد كما وردت به الأخبار قدموا على ذلك موطنين أنفسهم على الهلاك ، ومحتملين أنواع العذاب وصابرين عليه في ذات الله تعالى ومحتسبين لما يبذلونه من مهجهم عند الله . أفضل الكلام كلمة حق عند سلطان جائر ،
وطريق وعظ السلاطين وأمرهم بالمعروف ، ونهيهم عن المنكر ما نقل علماء السلف ، وقد أوردنا جملة من ذلك في باب الدخول على السلاطين في كتاب الحلال والحرام ونقتصر الآن على حكايات تعرف وجه الوعظ وكيفية الإنكار عليهم .
فمنها ما روي من إنكار أبي بكر الصديق رضي الله عنه على أكابر قريش حين قصدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسوء .
وذلك ما روي عن عروة رضي الله عنه قال : قلت لعبد الله بن عمرو ما أكثر ما رأيت قريشا نالت من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيما كانت تظهر من عدواته ، فقال : حضرتهم وقد اجتمع أشرافهم يوما في الحجر فذكروا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما رأينا مثل ما صبرنا عليه من هذا الرجل سفه أحلامنا وشتم آباءنا وعاب ديننا ، وفرق جماعتنا ، وسب آلهتنا ، ولقد صبرنا منه على أمر عظيم أو كما قالوا فبينما هم في ذلك إذ طلع عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل يمشي حتى استلم الركن ثم مر بهم طائفا بالبيت فلما مر بهم غمزوه ببعض القول قال فعرفت ذلك في وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم مضى فلما مر بهم الثانية غمزوه بمثلها فعرفت ذلك في وجهه عليه السلام، ثم مضى فمر بهم الثالثة فغمزوه بمثلها حتى وقف ، ثم قال : أتسمعون يا معشر قريش ، أما والذي نفس محمد بيده فقد جئتكم بالذبح قال فأطرق القوم حتى ما منهم رجل إلا كأنما على رأسه طائر واقع حتى إن أشدهم فيه وطأة قبل ذلك ليرفؤه بأحسن ما يجد من القول حتى إنه ليقول انصرف .
يا أبا القاسم راشدا ، فوالله ما كنت جهولا قال: فانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان من الغد اجتمعوا في الحجر ، وأنا معهم فقال بعضهم لبعض : ذكرتم ما بلغ منكم ، وما بلغكم عنه حتى إذا بادأكم بما تكرهون تركتموه ، فبينما هم في ذلك إذ طلع رسول الله صلى الله عليه وسلم فوثبوا إليه وثبة رجل واحد، فأحاطوا به يقولون: أنت الذي تقول كذا أنت الذي تقول كذا لما كان قد بلغهم من عيب آلهتهم ودينهم ، قال : فيقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم أنا الذي أقول ذلك قال فلقد رأيت منهم رجلا أخذ بمجامع ردائه قال : وقام رضي الله عنه دونه يقول وهو يبكي : ويلكم أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله ثم انصرفوا عنه وإن ، ذلك لأشد ما رأيت أبو بكر الصديق قريشا بلغت منه .
وفي رواية أخرى عن رضي الله عنهما قال بينا : رسول الله صلى الله عليه وسلم بفناء عبد الله بن عمرو الكعبة إذ أقبل عقبة بن أبي معيط فأخذ بمنكب رسول الله صلى الله عليه وسلم فلف ثوبه في عنقه فخنقه خنقا شديدا فجاء فأخذ بمنكبه ودفعه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم . أبو بكر
وروي أن معاوية رضي الله عنه حبس العطاء فقام إليه فقال له : يا معاوية إنه ليس من كدك ولا من كد أبيك ولا من كد أمك . أبو مسلم الخولاني
قال فغضب ونزل عن المنبر وقال لهم مكانكم وغاب عن أعينهم ساعة ثم خرج عليهم وقد اغتسل فقال : إن معاوية أبا مسلم كلمني بكلام أغضبني وإني ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : والشيطان خلق من النار وإنما تطفأ النار بالماء فإذا غضب أحدكم ، فليغتسل وإني دخلت فاغتسلت ، وصدق الغضب من الشيطان أبو مسلم إنه ليس من كدي ولا من كد أبي فهلموا إلى عطائكم .
وروي عن ضبة بن محصن العنزي قال : كان علينا أبو موسى الأشعري أميرا بالبصرة فكان إذا خطبنا حمد الله ، وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنشأ يدعو لعمر رضي الله عنه قال : فغاظني ذلك منه فقمت إليه فقلت له : أين أنت من صاحبه تفضله عليه فصنع ذلك جمعا ، ثم كتب إلى يشكوني يقول : إن عمر ضبة بن محصن العنزي يتعرض لي في خطبتي .
فكتب إليه أن أشخصه إلي ، قال فأشخصني إليه فقدمت فضربت عليه الباب فخرج إلي ، فقال : من أنت ، فقلت : أنا عمر ضبة فقال لي لا : مرحبا ولا أهلا ، قلت : أما المرحب فمن الله، وأما الأهل فلا أهل لي ولا مال، فبماذا استحللت يا عمر إشخاصي من مصري بلا ذنب أذنبته ، ولا شيء أتيته فقال ما الذي شجر بينك وبين عاملي ، قال قلت : الآن أخبرك به إنه كان إذا خطبنا حمد الله وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم أنشأ يدعو لك ، فغاظني ذلك منه ، فقمت إليه فقلت له : أين أنت من صاحبه تفضله عليه ، فصنع ذلك جمعا ، ثم كتب إليك يشكوني .
قال : فاندفع رضي الله عنه باكيا ، وهو يقول : أنت والله أوفق منه وأرشد ، فهل أنت غافر لي ذنبي يغفر الله لك ، قال قلت : غفر الله لك يا أمير المؤمنين . عمر
قال : ثم اندفع باكيا وهو يقول : والله لليلة من ويوم خير من أبي بكر عمر وآل عمر ، فهل لك أن أحدثك بليلته ويومه ، قلت : نعم قال: أما الليلة فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أراد الخروج من مكة هاربا من المشركين خرج ليلا ، فتبعه فجعل يمشي مرة أمامه ومرة خلفه ومرة عن يمينه ومرة عن يساره ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما هذا يا أبو بكر ما أعرف هذا من أفعالك ، فقال : يا رسول الله أذكر الرصد فأكون أمامك ، وأذكر الطلب فأكون خلفك ، ومرة عن يمينك ، ومرة عن يسارك لا آمن عليك . أبا بكر
قال فمشى : رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلته على أطراف أصابعه حتى حفيت ، فلما رأى أنها قد حفيت حمله على عاتقه وجعل يشتد به حتى أتى فم الغار فأنزله ثم قال : والذي بعثك بالحق لا تدخله حتى أدخله ، فإن كان فيه شيء نزل بي قبلك ، قال : فدخل فلم ير فيه شيئا فحمله فأدخله ، وكان في الغار خرق فيه حيات وأفاع ، فألقمه أبو بكر قدمه مخافة أن يخرج منه شيء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيؤذيه وجعلن يضربن أبو بكر في قدمه ، وجعلت دموعه تنحدر على خديه من ألم ما يجد ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له : يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا ، فأنزل الله سكينته عليه والطمأنينة أبا بكر فهذه ليلته . لأبي بكر ،
وأما يومه فلما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب فقال بعضهم نصلي ولا نزكي فأتيته لا آلوه نصحا فقلت يا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم تألف الناس وارفق بهم .
فقال لي : أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام فبماذا أتألفهم قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وارتفع الوحي فوالله لو منعوني عقالا كانوا يعطونه رسول الله صلى الله عليه وسلم لقاتلتهم عليه قال : فقاتلنا عليه ، فكان والله رشيد الأمر .
فهذا يومه .
ثم كتب إلى أبي موسى يلومه .