وعن أبي عمران الجوني قال الخلافة زاره العلماء هارون الرشيد فهنوه بما صار إليه من أمر الخلافة ففتح ، بيوت الأموال وأقبل يجيزهم بالجوائز السنية وكان قبل ذلك يجالس العلماء والزهاد وكان يظهر النسك والتقشف وكان مؤاخيا لما ولي لسفيان بن سعيد بن المنذر الثوري قديما فهجره سفيان ولم يزره فاشتاق هارون إلى زيارته ليخلو به ويحدثه فلم يزره ولم يعبأ بموضعه ولا بما صار إليه ، فاشتد ذلك على هارون ، فكتب إليه كتابا، يقول فيه: بسم الله الرحمن الرحيم من عبد الله هارون الرشيد أمير المؤمنين إلى أخيه سفيان بن سعيد بن المنذر ، أما بعد ، يا أخي قد علمت أن الله تبارك وتعالى واخى بين المؤمنين وجعل ذلك فيه وله واعلم أني قد واخيتك مواخاة لم أصرم بها حبلك ، ولم أقطع منها ودك وإني منطو لك على أفضل المحبة والإرادة ولولا هذه القلادة التي قلدنيها الله لأتيتك ولو حبوا لما أجد لك في قلبي من المحبة واعلم يا أبا عبد الله أنه ما بقي من إخواني وإخوانك أحد إلا وقد زارني وهناني بما صرت إليه وقد فتحت بيوت الأموال وأعطيتهم من الجوائز السنية ما فرحت به نفسي وقرت به عيني وإني استبطأتك فلم تأتني وقد كتبت لك كتابا شوقا مني إليك شديدا ، وقد علمت يا أبا عبد الله ما جاء في فضل المؤمن وزيارته ومواصلته ، فإذا ورد عليك كتابي فالعجل العجل .
فلما كتب الكتاب التفت إلى من عنده فإذا كلهم يعرفون وخشونته، فقال: علي برجل من الباب فأدخل عليه رجل يقال له سفيان الثوري عباد الطالقاني .
فقال : يا عباد خذ كتابي هذا فانطلق به إلى الكوفة فإذا دخلتها فسل عن قبيلة بني ثور ، ثم سل عن فإذا رأيته فألق كتابي هذا إليه وع بسمعك وقلبك جميع ما يقول فأحص عليه دقيق أمره وجليله لتخبرني به . سفيان الثوري ،
فأخذ عباد الكتاب وانطلق به حتى ورد الكوفة ، فسأل عن القبيلة فأرشد إليها ثم سأل عن سفيان ، فقيل له هو في المسجد .
قال عباد : فأقبلت إلى المسجد فلما رآني قام قائما ، وقال : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، وأعوذ بك اللهم من طارق يطرق إلا بخير .
قال عباد : فوقعت الكلمة في قلبي فخرجت فلما رآني نزلت بباب المسجد قام يصلي ولم يكن وقت صلاة : فربطت فرسي بباب المسجد ودخلت فإذا جلساؤه قعود قد نكسوا رؤوسهم كأنهم لصوص قد ورد عليهم السلطان ، فهم خائفون من عقوبته فسلمت فما رفع أحد إلي رأسه وردوا السلام علي برؤوس الأصابع فبقيت واقفا فما منهم أحد يعرض علي الجلوس وقد علاني من هيبتهم الرعدة ومددت عيني إليهم فقلت : إن المصلي هو سفيان فرميت بالكتاب إليه .
فلما رأى الكتاب ارتعد وتباعد منه كأنه حية عرضت له في محرابه ، فركع وسجد وسلم وأدخل يده في كمه ولفها بعباءته وأخذه فقلبه بيده ثم رماه إلى من كان خلفه وقال : يأخذه بعضكم يقرؤه فإني أستغفر الله أن أمس شيئا مسه ظالم بيده .
قال عباد : فأخذه بعضهم فحله كأنه خائف من فم حية تنهشه ثم فضه وقرأه وأقبل سفيان يتبسم تبسم المتعجب فلما فرغ من قراءته قال : اقلبوه واكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه، فقيل له : يا أبا عبد الله إنه خليفة فلو كتبت إليه في قرطاس نقي .
فقال : اكتبوا إلى الظالم في ظهر كتابه ، فإن كان اكتسبه من حلال فسوف يجزى به ، وإن كان اكتسبه من حرام فسوف يصلى به ولا يبقى شيء مسه ظالم عندنا، فيفسد علينا ديننا .
فقيل له ما نكتب ، فقال : اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم سفيان بن سعيد بن المنذر الثوري إلى العبد المغرور بالآمال هارون الرشيد الذي سلب حلاوة الإيمان . من العبد المذنب
أما بعد ، فإني قد كتبت إليك أعرفك أني قد صرمت حبلك وقطعت ودك وقليت موضعك فإنك قد جعلتني شاهدا عليك بإقرارك على نفسك في كتابك بما هجمت به على بيت مال المسلمين فأنفقته في غير حقه وأنفذته في غير حكمه، ثم لم ترض بما فعلته وأنت ناء عني حتى كتبت إلي تشهدني على نفسك .
أما إني قد شهدت عليك أنا وإخواني الذين شهدوا قراءة كتابك وسنؤدي الشهادة عليك غدا بين يدي الله تعالى ، يا هارون هجمت على بيت مال المسلمين بغير رضاهم هل رضي بفعلك المؤلفة قلوبهم والعاملون عليها في أرض الله تعالى، والمجاهدون في سبيل الله، وابن السبيل أم رضي بذلك حملة القرآن وأهل العلم والأرامل والأيتام أم هل رضي بذلك خلق من رعيتك ، فشد يا هارون مئزرك وأعد للمسألة جوابا وللبلاء جلبابا واعلم أنك ستقف بين يدي الحكم العدل فقد رزئت في نفسك إذ سلبت حلاوة العلم والزهد ولذيذ القرآن ومجالسة الأخيار ، ورضيت لنفسك أن تكون ظالما وللظالمين إماما ، يا هارون قعدت على السرير ولبست الحرير وأسبلت سترا دون بابك وتشبهت بالحجبة برب العالمين ثم أقعدت أجنادك الظلمة دون بابك وسترك ، يظلمون الناس ولا ينصفون ، يشربون الخمور ويضربون من يشربها ، ويزنون ويحدون الزاني ، ويسرقون ويقطعون السارق ، أفلا كانت هذه الأحكام عليك وعليهم قبل أن تحكم بها على الناس ، فكيف بك يا هارون غدا إذا نادى المنادي من قبل الله تعالى احشروا الذين ظلموا وأزواجهم أي الظلمة وأعوان الظلمة فقدمت بين يدي الله تعالى ، ويداك مغلولتان إلى عنقك لا يفكهما إلا عدلك وإنصافك والظالمون حولك وأنت لهم سابق وإمام إلى النار كأني بك يا هارون وقد أخذت بضيق الخناق ووردت المساق وأنت ترى حسناتك في ميزان غيرك وسيئات غيرك في ميزانك زيادة عن سيئاتك بلاء على بلاء وظلمة فوق ظلمة ، فاحتفظ بوصيتي واتعظ بموعظتي التي وعظتك بها ، واعلم أني قد نصحتك وما أبقيت لك في النصح غاية هارون في رعيتك ، واحفظ فاتق الله يا محمدا صلى الله عليه وسلم في أمته ، وأحسن الخلافة عليهم ، واعلم أن هذا الأمر لو بقي لغيرك لم يصل إليك وهو صائر إلى غيرك وكذا الدنيا تنتقل بأهلها واحدا بعد واحد فمنهم من تزود زادا نفعه ومنهم من خسر دنياه وآخرته ، وإني أحسبك يا هارون ممن خسر دنياه وآخرته ، فإياك إياك أن تكتب لي كتابا بعد هذا فلا أجيبك عنه، والسلام .
قال عباد فألقى : إلي الكتاب منشورا غير مطوي ولا مختوم فأخذته وأقبلت إلى سوق الكوفة ، وقد وقعت الموعظة من قلبي ، فناديت : يا أهل الكوفة فأجابوني فقلت لهم : يا قوم من يشتري رجلا هرب من الله إلى الله فأقبلوا إلي بالدنانير والدراهم فقلت : لا حاجة لي في المال ولكن جبة صوف خشنة وعباءة قطوانية قال : فأتيت بذلك ونزعت ما كان علي من اللباس الذي كنت ألبسه مع أمير المؤمنين وأقبلت أقود البرذون وعليه السلاح الذي كنت أحمله حتى أتيت باب أمير المؤمنين هارون حافيا راجلا ، فهزأ بي من كان على باب الخليفة ثم استؤذن ، لي فلما دخلت عليه وبصر بي على تلك الحالة قام وقعد ثم قام قائما ، وجعل يلطم رأسه ووجهه ويدعو بالويل والحزن ، ويقول : انتفع الرسول وخاب المرسل ما لي وللدنيا ولملك يزول عني سريعا، ثم ألقيت الكتاب إليه منشورا كما دفع إلي .
فأقبل هارون يقرؤه ودموعه تنحدر من عينيه ويقرأ ويشهق ، فقال بعض جلسائه : يا أمير المؤمنين لقد اجترأ عليك سفيان فلو وجهت إليه فأثقلته بالحديد وضيقت عليه السجن وكنت تجعله عبرة لغيره .
فقال هارون : اتركونا يا عبيد الدنيا المغرور من غررتموه والشقي من أهلكتموه وإن سفيان أمة وحده فاتركوا سفيان وشأنه .
ثم لم يزل كتاب سفيان إلى جنب هارون يقرؤه عند كل صلاة حتى توفي رحمه الله .
فرحم الله عبدا نظر لنفسه واتقى الله فيما يقدم عليه غدا من عمله ، فإنه عليه يحاسب وبه يجازى والله ولي التوفيق .