وعن أبي العباس الهاشمي عن صالح بن المأمون قال : دخلت على الحارث المحاسبي رحمه الله فقلت له : يا أبا عبد الله هل حاسبت نفسك ، فقال: كان هذا مرة قلت له: فاليوم؟ قال: أكاتم حالي إني لأقرأ آية من كتاب الله تعالى فأضن بها أن تسمعها نفسي ولولا أن يغلبني فيها فرح ما أعلنت بها .
ولقد كنت ليلة قاعدا في محرابي فإذا أنا بفتى حسن الوجه طيب الرائحة فسلم علي ، ثم قعد بين يدي فقلت له : من أنت فقال أنا واحد من السياحين أقصد المتعبدين في محاريبهم ولا أرى لك اجتهادا فأي شيء عملك ؟ قال قلت له : كتمان المصائب واستجلاب الفوائد قال فصاح وقال : ما علمت أن أحدا بين جنبي المشرق والمغرب هذه صفته ، قال الحارث : فأردت أن أزيد عليه فقلت له : أما علمت أن أهل القلوب يخفون أحوالهم ويكتمون أسرارهم ويسألون الله كتمان ذلك عليهم فمن أين تعرفهم ، قال : فصاح صيحة غشي عليه منها فمكث عندي يومين لا يعقل ثم أفاق وقد أحدث في ثيابه فعلمت إزالة عقله فأخرجت له .
ثوبا جديدا وقلت له : هذا كفني قد آثرتك به فاغتسل وأعد صلاتك فقال هات الماء فاغتسل وصلى ثم التحف بالثوب وخرج ، فقلت له : أين تريد فقال لي : قم معي فلم يزل يمشي حتى دخل على فسلم عليه وقال : يا ظالم أنا ظالم إن لم أقل لك يا ظالم أستغفر الله من تقصيري فيك ، أما تتقي الله تعالى فيما قد ملكك ، وتكلم بكلام كثير ثم أقبل يريد الخروج وأنا جالس بالباب ، فأقبل عليه المأمون وقال : من أنت قال : أنا رجل من السياحين فكرت فيما عمل الصديقون قبلي فلم أجد لنفسي فيه حظا فتعلقت بموعظتك لعلي ألحقهم قال : فأمر بضرب عنقه فأخرج ، وأنا قاعد على الباب ملفوفا في ذلك الثوب ومناد ينادي من ولي هذا فليأخذه ، قال المأمون الحارث : فاختبأت عنه فأخذه أقوام غرباء فدفنوه وكنت معهم لا أعلمهم بحاله .
فأقمت في مسجد بالمقابر محزونا على الفتى ، فغلبتني عيناي فإذا هو بين وصائف لم أر أحسن منهن ، وهو يقول : يا حارث أنت والله من الكاتمين الذين يخفون أحوالهم ويطيعون ربهم ، قلت : وما فعلوا ، قال : الساعة يلقونك فنظرت إلى جماعة ركبان فقلت : من أنتم قالوا الكاتمون أحوالهم : حرك هذا الفتى كلامك له فلم يكن في قلبه مما وصفت شيء فخرج للأمر والنهي وإن الله تعالى أنزله معنا وغضب لعبده .
وعن أحمد بن إبراهيم المقري قال كان أبو الحسين النوري رجلا قليل الفضول لا يسأل عما لا يعنيه ولا يفتش عما لا يحتاج إليه وكان فنزل ذات يوم إلى مشرعة تعرف بمشرعة الفحامين يتطهر للصلاة إذ رأى زورقا فيه ثلاثون دنا مكتوب عليها بالقار لطف فقرأه، وأنكره، لأنه لم يعلم في التجارات ولا في البيوع شيئا يعبر عنه بلطف . إذا رأى منكرا غيره ولو كان فيه تلفه
فقال للملاح إيش في هذه الدنان قال : وإيش عليك امض في شغلك ، فلما سمع من الملاح هذا القول ازداد تعطشا إلى معرفته فقال : أحب أن تخبرني إيش في هذه الدنان قال : وإيش عليك أنت والله صوفي فضولي هذا خمر للمعتضد يريد أن يتمم به مجلسه ، فقال النوري وهذا خمر قال : نعم فقال : أحب أن تعطيني ذلك المدري فاغتاظ الملاح عليه وقال لغلامه : أعطه حتى أنظر ما يصنع، فلما صارت المدرى في يده صعد إلى الزورق ولم يزل يكسرها دنا دنا حتى أتى على آخرها إلا دنا واحدا والملاح يستغيث إلى أن ركب صاحب الجسر وهو يومئذ النوري ابن بشر أفلح فقبض على وأشخصه إلى حضرة النوري المعتضد وكان المعتضد سيفه قبل كلامه ولم يشك الناس في أنه سيقتله ، قال أبو الحسين فأدخلت عليه وهو جالس على كرسي حديد وبيده عمود يقلبه فلما رآني قال : من أنت ؟ قلت : محتسب قال ومن : ولاك الحسبة؟ قلت : الذي ولاك الإمامة ولاني الحسبة يا أمير المؤمنين قال : فأطرق إلى الأرض ساعة ثم رفع رأسه إلي وقال : ما الذي حملك على ما صنعت ؟ فقلت : شفقة مني عليك إذ بسطت يدي إلى صرف مكروه عنك فقصرت عنه .
قال : فأطرق مفكرا في كلامي ثم رفع رأسه إلي وقال : كيف تخلص هذا الدن الواحد من جملة الدنان فقلت ؟ : في تخلصه علة أخبر بها أمير المؤمنين إن أذن فقال : هات خبرني فقلت : يا أمير المؤمنين إني أقبلت على الدنان بمطالبة الحق سبحانه لي بذلك وغمر قلبي شاهد الإجلال للحق وخوف المطالبة فغابت هيبة الخلق عني فأقدمت عليها بهذه الحال إلى أن صرت إلى هذا الدن فاستشعرت نفسي كبرا على أني أقدمت على مثلك فمنعت ولو أقدمت عليه بالحال الأول وكانت ملء الدنيا دنان لكسرتها ولم أبال ، فقال المعتضد : اذهب فقد أطلقنا يدك غير ما أحببت أن تغيره من المنكر .
قال أبو الحسين فقلت: يا أمير المؤمنين بغض إلي التغيير لأني كنت أغير عن الله تعالى وأنا الآن أغير عن شرطي ، فقال المعتضد : ما حاجتك ؟ فقلت : يا أمير المؤمنين تأمر بإخراجي سالما فأمر له بذلك وخرج إلى البصرة فكان أكثر أيامه بها خوفا من أن يسأله أحد حاجة يسألها المعتضد فأقام بالبصرة إلى أن توفي المعتضد ثم رجع إلى بغداد .