وفي كماله سعادته وصلاحه لجوار حضرة الجلال والكمال فالبدن مركب للنفس ، والنفس محل للعلم ، والعلم هو مقصود الإنسان وخاصيته التي لأجله خلق . وأشرف أنواع العلم هو العلم بالله وصفاته وأفعاله فبه كمال الإنسان
وكما أن الفرس يشارك الحمار في قوة الحمل ويختص عنه بخاصية الكر والفر وحسن الهيئة فيكون الفرس مخلوقا لأجل تلك الخاصية ، فإن تعطلت منه نزل إلى حضيض رتبة الحمار وكذلك الإنسان يشارك الحمار والفرس في أمور ويفارقهما ، في أمور هي خاصيته ، وتلك الخاصية من صفات الملائكة المقربين من رب العالمين والإنسان على رتبة بين البهائم والملائكة فإن الإنسان من حيث يتغذى وينسل فنبات ومن حيث يحس ويتحرك بالاختيار فحيوان ، ومن حيث صورته وقامته فكالصورة المنقوشة على الحائط وإنما خاصيته معرفة حقائق الأشياء فمن استعمل جميع أعضائه وقواه على وجه الاستعانة بها على العلم والعمل فقد تشبه بالملائكة ، فحقيق بأن يلحق بهم وجدير بأن يسمى ملكا وربانيا كما أخبر الله تعالى عن صواحبات يوسف عليه السلام بقوله: ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم .
ومن صرف همته إلى اتباع اللذات البدنية يأكل كما تأكل الأنعام ، فقد انحط إلى حضيض أفق البهائم ، فيصير إما غمرا كثور وإما شرها كخنزير .
وإما ضرعا ككلب ، أو سنور أو حقودا كجمل .
أو متكبرا كنمر ، أو ذا روغان كثعلب أو يجمع ذلك كله كشيطان مريد .
وما من عضو من الأعضاء ولا حاسة من الحواس إلا ويمكن الاستعانة به على طريق الوصول إلى الله تعالى كما سيأتي بيان طرف منه في كتاب الشكر فمن استعمله فيه فقد فاز ومن عدل عنه فقد خسر وخاب وجملة السعادة في ذلك أن يجعل لقاء الله تعالى مقصده والدار الآخرة مستقره والدنيا منزله والبدن مركبه والأعضاء خدمه .
فيستقر هو أعني المدرك من الإنسان في القلب الذي هو وسط مملكته كالملك ويجري القوة الخيالية المودعة في مقدم الدماغ مجرى صاحب بريده إذ تجتمع أخبار المحسوسات عنده ويجري القوة الحافظة التي مسكنها مؤخر الدماغ مجرى خازنه ويجري اللسان مجرى ترجمانه ويجري الأعضاء المتحركة مجرى كتابه ويجري الحواس الخمس مجرى جواسيسه فيوكل كل واحد منها بأخبار صقع من الأصقاع فيوكل العين بعالم الألوان والسمع بعالم الأصوات والشم ، بعالم الروائح ، وكذلك سائرها فإنها أصحاب أخبار يلتقطونها من هذه العوالم ويؤدونها إلى القوة الخيالية التي هي كصاحب البريد ، ويسلمها صاحب البريد إلى الخازن وهي الحافظة ويعرضها الخازن على الملك فيقتبس الملك منها ما يحتاج إليه في تدبير مملكته وإتمام سفره الذي هو بصدده وقمع عدوه الذي هو مبتلى به ودفع قواطع الطريق عليه فإذا فعل ذلك كان موفقا سعيدا شاكرا نعمة الله وإذا عطل هذه الجملة أو استعملها لكن في مراعاة أعدائه وهي الشهوة والغضب وسائر الحظوظ العاجلة أو في ، عمارة طريقه دون منزله إذ الدنيا طريقه التي عليها عبوره ووطنه ومستقره الآخرة كان مخذولا شقيا كافرا بنعمة الله تعالى مضيعا لجنود الله تعالى ناصرا لأعداء الله مخذلا لحزب الله فيستحق المقت والإبعاد في المنقلب والمعاد نعوذ بالله من ذلك .
وإلى المثال الذي ضربناه أشار كعب الأحبار حيث قال : دخلت على رضي الله عنها فقلت : الإنسان عيناه هاد وأذناه قمع ولسانه ترجمان ويداه جناحان ، ورجلاه بريد والقلب منه ملك . عائشة
فإذا طاب الملك طابت جنوده فقالت : هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وقال علي رضي الله عنه في : إن لله تعالى في أرضه آنية وهي القلوب فأحبها إليه تعالى أرقها وأصفاها وأصلبها ثم فسره فقال : أصلبها في الدين وأصفاها في اليقين وأرقها على الإخوان وهو إشارة إلى قوله تعالى : تمثيل القلوب أشداء على الكفار رحماء بينهم وقوله تعالى : مثل نوره كمشكاة فيها مصباح قال أبي بن كعب رضي الله عنه معناه : مثل نور المؤمن وقلبه ، وقوله تعالى : أو كظلمات في بحر لجي مثل قلب المنافق .
وقال زيد بن أسلم في قوله تعالى في لوح محفوظ وهو قلب المؤمن .
وقال سهل مثل القلب والصدر مثل العرش والكرسي فهذه أمثلة القلب .