اعلم أن القلب بغريزته مستعد لقبول حقائق المعلومات كما سبق ولكن العلوم التي تحل فيه تنقسم إلى عقلية وإلى شرعية ، والعقلية تنقسم إلى ضرورية ومكتسبة .
والمكتسبة إلى دنيوية وأخروية .
أما العقلية فنعني بها ما تقضي بها غريزة العقل ولا توجد بالتقليد والسماع وهي تنقسم إلى : ضرورية لا يدرى من أين حصلت وكيف حصلت ، كعلم الإنسان بأن الشخص الواحد لا يكون في مكانين والشيء الواحد لا يكون حادثا قديما موجودا معدوما معا فإن هذه علوم يجد الإنسان نفسه منذ الصبا مفطورا عليها ولا يدري متى حصل له هذا العلم ولا من أين حصل له أعني أنه لا يدري له سببا قريبا ، وإلا فليس يخفى عليه أن الله هو الذي خلقه وهداه وإلى علوم مكتسبة وهي المستفادة بالتعلم والاستدلال وكلا القسمين قد يسمى عقلا .
قال رضي الله عنه رأيت علي
العقل عقلين فمطبوع ومسموع ولا ينفع مسموع
إذا لم يك مطبوع كما لا تنفع الشمس
وضوء العين ممنوع
" والثاني : هو المراد بقوله صلى الله عليه وسلم رضي الله عنه : " لعلي إذا تقرب الناس إلى الله تعالى بأنواع البر فتقرب أنت بعقلك.
" إذ لا يمكن التقرب بالغريزة الفطرية ولا بالعلوم الضرورية بل بالمكتسبة ، ولكن مثل علي رضي الله عنه هو الذي يقدر على التقرب باستعمال العقل في اقتناص العلوم التي بها ينال القرب من رب العالمين فالقلب جار مجرى العين ، وغريزة العقل فيه جارية مجرى قوة البصر في العين ، وقوة الإبصار لطيفة تفقد في العمى ، وتوجد في البصر وإن كان قد غمض عينيه أو جن عليه الليل ، والعلم الحاصل منه في القلب جار مجرى قوة إدراك البصر في العين ورؤيته لأعيان الأشياء وتأخر العلوم عن عين العقل في مدة الصبا إلى أوان التمييز أو البلوغ يضاهي تأخر الرؤية عن البصر إلى أوان إشراق الشمس وفيضان نورها على المبصرات ، والقلم الذي سطر الله به العلوم على صفحات القلوب يجري مجرى قرص الشمس ، وإنما لم يحصل العلم في قلب الصبي قبل التمييز ؛ لأن لوح قلبه لم يتهيأ بعد لقبول نفس العلم في قلوب البشر ؛ قال الله تعالى : والقلم عبارة عن خلق من خلق الله تعالى جعله سببا لحصول نقش العلوم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم وقلم الله تعالى لا يشبه قلم خلقه كما لا يشبه وصفه وصف خلقه ؛ فليس قلمه من قصب ولا خشب كما أنه تعالى ليس من جوهر ولا عرض فالموازنة بين البصيرة الباطنة والبصر الظاهر صحيحة من هذه الوجوه ، إلا أنه لا مناسبة بينهما في الشرف فإن البصيرة الباطنة هي عين النفس التي هي اللطيفة المدركة وهي كالفارس والبدن كالفرس ، وعمى الفارس أضر على الفارس من عمى الفرس ، بل لا نسبة لأحد الضررين إلى الآخر .
ولموازنة البصيرة الباطنة للبصر الظاهر سماه الله تعالى باسمه فقال : ما كذب الفؤاد ما رأى سمى إدراك الفؤاد رؤية وكذلك قوله تعالى : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض وما أراد به الرؤية الظاهرة فإن ذلك غير مخصوص بإبراهيم عليه السلام حتى يعرض في معرض الامتنان ولذلك سمي ضد إدراكه عمى فقال تعالى : فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور وقال تعالى ومن كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلا فهذا بيان العلم العقلي .
أما العلوم الدينية فهي المأخوذة بطريق التقليد من الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه وذلك يحصل بالتعلم لكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفهم معانيهما بعد السماع ، وبه كمال صفة القلب وسلامته عن الأدواء والأمراض ، وإن كان محتاجا إليها كما أن العقل غير كاف في استدامة صحة أسباب البدن ، بل يحتاج إلى معرفة خواص الأدوية والعقاقير بطريق التعلم من الأطباء ، ؛ إذ مجرد العقل لا يهتدي إليه ولكن لا يمكن فهمه بعد سماعه إلا بالعقل فلا غنى بالعقل عن السماع ، ولا غنى بالسماع عن العقل ، فالداعي إلى محض التقليد مع عزل العقل بالكلية جاهل ، والمكتفي بمجرد العقل عن أنوار القرآن والسنة مغرور فإياك أن تكون من أحد الفريقين وكن جامعا بين الأصلين فإن العلوم العقلية كالأغذية والعلوم الشرعية كالأدوية والشخص المريض يستضر بالغذاء متى فاته الدواء ، فكذلك أمراض القلوب لا يمكن علاجها إلا بالأدوية المستفادة من الشريعة ، وهي وظائف العبادات والأعمال التي ركبها الأنبياء صلوات الله عليهم لإصلاح القلوب فمن لا يداوي قلبه المريض بمعالجات العبادة الشرعية واكتفى بالعلوم العقلية استضر بها كما يستضر المريض بالغذاء وظن من يظن أن العلوم العقلية مناقضة للعلوم الشرعية وأن الجمع بينهما غير ممكن هو ظن صادر عن عمى في عين البصيرة نعوذ بالله منه ، بل هذا القائل ربما يناقض عنده بعض العلوم الشرعية لبعض ، فيعجز عن الجمع بينهما ، فيظن أنه تناقض في الدين فيتحير به فينسل من الدين انسلال الشعرة من العجين وإنما ذلك ؛ لأن عجزه في نفسه خيل إليه نقضا في الدين وهيهات وإنما مثاله مثال الأعمى الذي دخل دار قوم فتعثر فيها بأواني الدار فقال لهم : ما بال هذه الأواني تركت على الطريق لم لا ترد إلى مواضعها فقالوا ؟ له : تلك الأواني في مواضعها وإنما أنت لست تهتدي للطريق لعماك ، فالعجب منك أنك لا تحيل عثرتك على عماك وإنما تحيلها على تقصير غيرك فهذه نسبة العلوم الدينية إلى العلوم العقلية . فالعلوم العقلية غير كافية في سلامة القلب
والعلوم العقلية تنقسم إلى دنيوية وأخروية .
فالدنيوية كعلم الطب والحساب والهندسة والنجوم وسائر الحرف والصناعات .
والأخروية كعلم أحوال القلب وآفات الأعمال والعلم بالله تعالى وبصفاته وأفعاله كما فصلناه في كتاب العلم وهما علمان متنافيان أعني أن من صرف عنايته إلى أحدهما حتى تعمق فيه قصرت بصيرته عن الآخر على الأكثر ولذلك ضرب رضي الله عنه للدنيا والآخرة ثلاثة أمثلة فقال هما ككفتي الميزان وكالمشرق والمغرب وكالضرتين إذا أرضيت إحداهما أسخطت الأخرى . علي
ولذلك ترى الأكياس في أمور الدنيا وفي علم الطب والحساب والهندسة والفلسفة جهالا في أمور الآخرة والأكياس في دقائق علوم الآخرة جهالا في أكثر علوم الدنيا لأن قوة العقل لا تفي بالأمرين جميعا في الغالب ، فيكون أحدهما مانعا من الكمال في الثاني ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم إن : " أكثر أهل الجنة البله " أي : البله في أمور الدنيا .
وقال الحسن في بعض مواعظه لقد أدركنا أقواما لو رأيتموهم لقلتم مجانين ولو أدركوكم لقالوا شياطين فمهما سمعت أمرا غريبا من أمور الدين جحده أهل الكياسة في سائر العلوم فلا يغرنك جحودهم عن قبوله إذ من المحال أن يظفر سالك طريق المشرق بما يوجد في المغرب فكذلك يجري أمر الدنيا والآخرة ؛ ولذلك قال تعالى : إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها الآية . وقال تعالى : يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون وقال عز وجل : فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم فالجمع بين كمال الاستبصار في مصالح الدنيا والدين لا يكاد يتيسر إلا لمن رسخه الله لتدبير عباده في معاشهم ومعادهم وهم الأنبياء المؤيدون بروح القدس المستمدون من القوة الإلهية التي تتسع لجميع الأمور ولا تضيق عنها فأما . قلوب سائر الخلق فإنها إذا استقلت بأمر الدنيا انصرفت عن الآخرة ، وقصرت عن الاستكمال فيها .