بيان ومعنى الوسوسة وسبب غلبتها . تسلط الشيطان على القلب بالوساوس ،
اعلم أن القلب كما ذكرناه مثل قبة مضروبة لها أبواب تنصب إليه الأحوال من كل باب ومثاله أيضا مثال هدف تنصب إليه السهام من الجوانب أو هو مثال مرآة منصوبة تجتاز عليها أصناف الصور المختلفة فتتراءى فيها صورة بعد صورة ولا تخلو عنها أو مثال حوض تنصب فيه مياه مختلفة من أنهار مفتوحة إليه ، وإنما مداخل هذه الآثار المتجددة في القلب في كل حال أما ، من الظاهر فالحواس ، الخمس وأما من الباطن فالخيال والشهوة والغضب والأخلاق المركبة من مزاج الإنسان فإنه إذا أدرك بالحواس شيئا حصل منه أثر في القلب وكذلك إذا هاجت الشهوة مثلا بسبب كثرة الأكل وبسبب قوة في المزاج حصل منها في القلب أثر وإن كف عن الإحساس ، فالخيالات الحاصلة في النفس تبقى وينتقل الخيال من شيء إلى شيء ، وبحسب انتقال الخيال ينتقل القلب من حال إلى حال آخر ، والمقصود أن القلب في التغير والتأثر دائما من هذه الأسباب ، وأخص الآثار الحاصلة في القلب هو الخواطر ، وأعني بالخواطر ما يحصل فيه من الأفكار والأذكار وأعني به إدراكاته علوما إما على سبيل التجدد ، وإما على سبيل التذكر ، فإنها تسمى خواطر من حيث إنها تخطر بعد أن كان القلب غافلا عنها ، والخواطر هي المحركات للإرادات .
فإن النية والعزم والإرادة إنما تكون بعد خطور المنوي بالبال لا محالة ، فمبدأ الأفعال الخواطر ثم الخاطر يحرك الرغبة ، والرغبة تحرك العزم والعزم يحرك النية ، والنية تحرك الأعضاء ، والخواطر المحركة للرغبة تنقسم إلى ما يدعو إلى الشر أعني إلى ما يضر في العاقبة ، وإلى ما يدعو إلى الخير ، أعني إلى ما ينفع في الدار الآخرة ، فهما خاطران مختلفان ، فافتقرا إلى اسمين مختلفين ، فالخاطر المحمود يسمى إلهاما والخاطر المذموم أعني الداعي إلى الشر يسمى وسواسا ثم إنك تعلم أن هذه الخواطر حادثة ، ثم إن كل حادث فلا بد له من محدث ومهما اختلفت الحوادث دل ذلك على اختلاف الأسباب ، هذا ما عرف من سنة الله تعالى في ترتيب المسببات على الأسباب .
فمهما استنارت حيطان البيت بنور النار ، وأظلم سقفه واسود بالدخان علمت أن سبب السواد غير سبب الاستنارة .
وكذلك ، لأنوار القلب وظلمته سببان مختلفان ، فسبب الخاطر الداعي إلى الخير يسمى ملكا وسبب الخاطر ، الداعي إلى الشر يسمى شيطانا ، واللطف الذي يتهيأ به القلب لقبول إلهام الخير يسمى توفيقا ، والذي به يتهيأ لقبول وسواس الشيطان يسمى إغواء وخذلانا ، فإن المعاني المختلفة تفتقر إلى أسامي مختلفة ، والملك عبارة عن خلق خلقه الله تعالى شأنه إفاضة الخير ، وإفادة العلم ، وكشف الحق ، والوعد بالخير ، والأمر بالمعروف ، وقد خلقه وسخره لذلك ، والشيطان عبارة عن خلق شأنه ضد ذلك وهو الوعد بالشر ، والأمر بالفحشاء والتخويف عند الهم بالخير بالفقر فالوسوسة في مقابلة الإلهام ، والشيطان في مقابلة الملك ، والتوفيق في مقابلة الخذلان وإليه الإشارة بقوله تعالى : ومن كل شيء خلقنا زوجين فإن الموجودات كلها متقابلة مزدوجة إلا الله تعالى فإنه فرد لا مقابل له بل هو الواحد الحق الخالق للأزواج كلها ، وقد قال صلى الله عليه وسلم - : " فالقلب متجاذب بين الشيطان والملك في القلب لمتان : لمة من الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله سبحانه وليحمد الله ، ولمة من العدو إيعاد بالشر وتكذيب بالحق ونهي عن الخير فمن وجد ذلك فليستعذ بالله من الشيطان الرجيم ثم تلا قوله : الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء الآية ، وقال الحسن إنما هما همان يجولان في القلب: هم من الله تعالى ، وهم من العدو ، فرحم الله عبدا وقف عند همه ، فما كان من الله تعالى أمضاه ، وما كان من عدوه جاهده ولتجاذب القلب بين هذين التسلطين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ، فالله يتعالى عن أن يكون له أصبع مركبة من لحم وعظم ودم وعصب منقسمة بالأنامل ، ولكن روح الإصبع سرعة التقليب والقدرة على التحريك والتغيير ، فإنك لا تريد إصبعك لشخصه ، بل لفعله في التقليب والترديد ، كما أنك تتعاطى الأفعال بأصابعك والله تعالى يفعل ما يفعل باستسخار الملك والشيطان ، وهما مسخران بقدرته في تقليب القلوب كما أن أصابعك مسخرة لك في تقليب الأجسام مثلا ، والقلب بأصل الفطرة صالح لقبول آثار الملك ، ولقبول آثار الشيطان صلاحا متساويا ليس يترجح أحدهما على الآخر ، وإنما يترجح أحد الجانبين باتباع الهوى والإكباب على الشهوات أو الإعراض عنها ومخالفتها ، فإن اتبع الإنسان مقتضى الغضب والشهوة ظهر تسلط الشيطان بواسطة الهوى ، وصار القلب عش الشيطان ومعدنه لأن الهوى هو مرعى الشيطان ومرتعه ، وإن جاهد الشهوات ولم يسلطها على نفسه وتشبه بأخلاق الملائكة عليهم السلام صار قلبه مستقر الملائكة ومهبطهم ولما كان لا يخلو قلب عن شهوة وغضب وحرص وطمع وطول أمل إلى غير ذلك من صفات البشرية المتشعبة عن الهوى ، لا جرم لم يخل قلب عن أن يكون للشيطان فيه جولان بالوسوسة ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم - : قلب المؤمن بين أصبعين من أصابع الرحمن وإنما كان هذا لأن الشيطان لا يتصرف إلا بواسطة الشهوة، فمن أعانه الله على شهوته حتى صارت لا تنبسط إلا حيث ينبغي وإلى الحد الذي ينبغي ، فشهوته لا تدعو إلى الشر فالشيطان المتدرع بها لا يأمر إلا بالخير ومهما غلب على القلب ذكر الدنيا بمقتضيات الهوى وجد الشيطان مجالا فوسوس ومهما انصرف القلب إلى ذكر الله تعالى ارتحل الشيطان وضاق مجاله وأقبل الملك وألهم، والتطارد بين جندي الملائكة والشياطين في معركة القلب دائم إلى أن ينفتح القلب لأحدهما فيستوطن ويكون اجتياز الثاني اختلاسا ، وأكثر القلوب قد فتحتها جنود الشياطين وتملكتها فامتلأت بالوساوس الداعية إلى إيثار العاجلة واطراح الآخرة، ومبدأ استيلائها اتباع الشهوات والهوى، ولا يمكن فتحها بعد ذلك إلا بتخلية القلب من قوت الشيطان ، وهو الهوى والشهوات وعمارته بذكر الله تعالى الذي هو مطرح أثر الملائكة، قال ما منكم من أحد إلا وله شيطان ، قالوا : وأنت يا رسول الله ? قال : وأنا إلا أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بالخير جابر بن عبيدة العدوي: شكوت إلى ما أجد في صدري من الوسوسة؟ فقال: إنما مثل ذلك مثل البيت الذي يمر به اللصوص ، فإن كان فيه شيء عالجوه وإلا مضوا وتركوه، يعني أن القلب الخالي عن الهوى لا يدخله الشيطان ، ولذلك قال تعالى: العلاء بن زياد إن عبادي ليس لك عليهم سلطان فكل من اتبع الهوى فهو عبد الهوى لا عبد الله، ولذلك سلط الله عليه الشيطان .
وقال تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه وهو إشارة إلى أن من الهوى إلهه ومعبوده، فهو عبد الهوى لا عبد الله ، ولذلك قال للنبي صلى الله عليه وسلم: عمرو بن العاص: ، وفي الخبر : يا رسول الله ، حال الشيطان بيني وبين صلاتي وقراءتي ، فقال: ذلك شيطان يقال له: خنزب فإذا أحسسته فتعوذ بالله منه ، واتفل على يسارك ثلاثا. قال: ففعلت ذلك ، فأذهبه الله عني ، ولا يمحو وسوسة الشيطان من القلب إلا ذكر ما سوى ما يوسوس به؛ لأنه إذا خطر في القلب ذكر شيء انعدم منه ما كان فيه من قبل ، ولكن كل شيء سوى الله تعالى ، وسوى ما يتعلق به فيجوز أيضا أن يكون مجالا للشيطان ، وذكر الله هو الذي يؤمن جانبه ، ويعلم أنه ليس للشيطان فيه مجال ولا يعالج الشيء إلا بضده إن للوضوء شيطانا يقال له الولهان ، فاستعيذوا بالله منه ، وهو معنى قولك: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، وذلك لا يقدر عليه إلا المتقون الغالب عليهم ذكر الله تعالى، وإنما الشيطان يطوف عليهم في أوقات الفلتات على سبيل الخلسة، قال الله تعالى: وضد جميع وساوس الشيطان ذكر الله بالاستعاذة والتبري عن الحول والقوة إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون .
وقال في معنى قول الله تعالى: مجاهد من شر الوسواس الخناس قال: هو منبسط على القلب ، فإذا ذكر الله تعالى خنس وانقبض ، وإذا غفل انبسط على قلبه، فالتطارد بين ذكر الله ووسوسة الشيطان كالتطارد بين النور والظلام وبين الليل والنهار؛ ولتضادهما قال الله تعالى: استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم- : أنس . إن الشيطان واضع خرطومه على قلب ابن آدم ، فإن هو ذكر الله تعالى خنس وإن نسي الله التقم قلبه
وقال ابن وضاح في حديث ذكره : إذا بلغ الرجل أربعين سنة ، ولم يتب ولم يتب مسح الشيطان وجهه بيده ، وقال: بأبي وجه من لا يفلح وكما أن الشهوات ممتزجة بلحم ابن آدم ودمه فسلطنة الشيطان أيضا سارية في لحمه ودمه ومحيطة بالقلب من جوانبه ، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، فضيقوا مجاريه بالجوع ، وذلك ؛ لأن الجوع يكسر الشهوة ، ومجرى الشيطان الشهوات ولأجل اكتناف الشهوات للقلب من جوانبه ؛ قال الله تعالى إخبارا عن إبليس لأقعدن لهم صراطك المستقيم ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم وقال صلى الله عليه وسلم - : ، فذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم إن الشيطان قعد لابن آدم بطرق فقعد له بطريق الإسلام فقال : أتسلم وتترك دينك ودين آبائك فعصاه وأسلم ثم قعد له بطريق الهجرة فقال أتهاجر ، أتدع أرضك وسماءك فعصاه وهاجر هو قعد له بطريق الجهاد فقال: أتجاهد وهو تلف النفس والمال فتقاتل فتقتل فتنكح نساؤك ويقسم مالك ، فعصاه وجاهد، وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : فمن فعل ذلك فمات كان حقا على الله أن يدخله الجنة ، وهي هذه الخواطر التي تخطر للمجاهد أنه يقتل وتنكح نساؤه وغير ذلك مما يصرفه عن الجهاد وهذه الخواطر معلومة ، فإذا الوسواس معلوم بالمشاهدة ، وكل خاطر فله سبب يفتقر إلى اسم يعرفه ، فاسم سببه الشيطان، ولا يتصور أن ينفك عنه آدمي، وإنما يختلفون بعصيانه ومتابعته، ولذلك قال عليه السلام- : معنى الوسوسة فقد اتضح بهذا النوع من الاستبصار معنى الوسوسة والإلهام والملك والشيطان والتوفيق والخذلان فبعد هذا نظر من ينظر في ذات الشيطان أنه جسم لطيف أو ليس بجسم ، وإن كان جسما فكيف يدخل بدن الإنسان ما هو جسم ، فهذا الآن غير محتاج إليه في علم المعاملة ، بل مثال الباحث عن هذا مثال من دخلت في ثيابه حية وهو محتاج إلى إزالتها ودفع ضررها ، فاشتغل بالبحث عن لونها وشكلها وطولها وعرضها ، وذلك عين الجهل فمصادمة الخواطر الباعثة على الشر قد علمت ، ودل ذلك على أنه عن سبب لا محالة ، وعلم أن الداعي إلى الشر المحذور في المستقبل عدو فقد عرف العدو لا محالة فينبغي أن يشتغل بمجاهدته وقد عرف الله سبحانه عداوته في مواضع كثيرة من كتابه ليؤمن به ويحترز عنه فقال تعالى : ما من أحد إلا وله شيطان إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا إنما يدعو حزبه ليكونوا من أصحاب السعير وقال تعالى : ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين فينبغي للعبد أن يشتغل بدفع العدو عن نفسه لا بالسؤال عن أصله ونسبه ومسكنه نعم ، ينبغي أن يسأل عن سلاحه ليدفعه عن نفسه وسلاح الشيطان الهوى والشهوات وذلك كاف للعالمين ، فأما معرفة ذاته وصفاته وحقيقته نعوذ بالله منه وحقيقة الملائكة فذلك ميدان العارفين المتغلغلين في علوم المكاشفات فلا يحتاج في علم المعاملة إلى معرفته ، نعم ينبغي أن يعلم أن الخواطر تنقسم إلى ما يعلم قطعا أنه داع إلى الشر ، فلا يخفى كونه وسوسة ، وإلى ما يعلم أنه داع إلى الخير فلا يشك في كونه إلهاما ، وإلى ما يتردد فيه فلا يدري أنه من لمة الملك أو من لمة الشيطان ، فإن من أن يعرض الشر في معرض الخير ، والتمييز في ذلك غامض وأكثر العباد به يهلكون فإن الشيطان لا يقدر على دعائهم إلى الشر الصريح فيصور الشر بصورة الخير كما يقول للعالم بطريق الوعظ أما تنظر إلى الخلق وهم موتى من الجهل هلكى من الغفلة قد أشرفوا على النار . مكايد الشيطان
أما لك رحمة على عباد الله تنقذهم من المعاطب بنصحك ووعظك وقد أنعم الله عليك بقلب بصير ولسان ذلق ولهجة مقبولة فكيف تكفر نعمة الله تعالى وتتعرض لسخطه وتسكت عن إشاعة العلم ودعوة الخلق إلى الصراط المستقيم وهو لا ، يزال يقرر ذلك في نفسه ويستجره بلطيف الحيل إلى أن يشتغل بوعظ الناس ثم يدعوه بعد ذلك إلى أن يتزين لهم ويتصنع بتحسين اللفظ وإظهار الخير ويقول له : إن لم تفعل ذلك سقط وقع كلامك من قلوبهم ولم يهتدوا إلى الحق ولا يزال يقرر ذلك عنده وهو في أثنائه يؤكد فيه شوائب الرياء وقبول الخلق ولذة الجاه والتعزز بكثرة الأتباع والعلم والنظر إلى الخلق بعين الاحتقار فيستدرج المسكين بالنصح إلى الهلاك فيتكلم وهو يظن أن قصده الخير ، وإنما قصده الجاه والقبول فيهلك بسببه وهو يظن أنه عند الله بمكان وهو من الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله ليؤيد هذا الدين بقوم لا خلاق لهم وإن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الفاجر، ولذلك روي أن إبليس لعنه الله تمثل لعيسى ابن مريم صلى الله عليه وسلم فقال له : قل : لا إله إلا الله فقال كلمة حق ، ولا أقولها بقولك ؛ لأن له أيضا تحت الخير تلبيسات وتلبيسات الشيطان من هذا الجنس لا تتناهى ، وبها يهلك العلماء والعباد والزهاد والفقراء والأغنياء وأصناف الخلق ممن يكرهون ظاهر الشر ولا يرضون لأنفسهم الخوض في المعاصي المكشوفة .
وسنذكر جملة من مكايد الشيطان في كتاب الغرور في آخر هذا الربع ولعلنا إن أمهل الزمان صنفنا فيه كتابا على الخصوص نسميه تلبيس إبليس فإنه قد انتشر الآن تلبيسه في البلاد والعباد لا سيما في المذاهب والاعتقادات حتى لم يبق من الخيرات إلا رسمها كل ذلك إذعانا لتلبيسات الشيطان ومكايده .
فحق على العبد أن يقف عند كل هم يخطر له ليعلم أنه من لمة الملك أو من لمة الشيطان وأن يمعن النظر فيه بعين البصيرة لا بهوى من الطبع ، ولا يطلع عليه إلا بنور التقوى والبصيرة وغزارة العلم كما قال تعالى : إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا أي : رجعوا إلى نور العلم فإذا هم مبصرون أي : ينكشف لهم الإشكال فأما من لم يرض نفسه بالتقوى فيميل طبعه إلى الإذعان بتلبيسه بمتابعة الهوى فيكثر فيه غلطه ويتعجل فيه هلاكه ، وهو لا يشعر ، وفي مثلهم قال سبحانه وتعالى : وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون قيل : هي أعمال ظنوها حسنات ، فإذا هي سيئات وأغمض أنواع علوم المعاملة الوقوف على خدع النفس ومكايد الشيطان ، وذلك فرض عين على كل عبد وقد أهمله الخلق واشتغلوا بعلوم تستجر إليهم الوسواس وتسلط عليهم الشيطان وتنسيهم عداوته وطريق الاحتراز عنه ولا ينجي من كثرة الوسواس إلا سد أبواب الخواطر وأبوابها الحواس الخمس وأبوابها من داخل الشهوات وعلائق الدنيا والخلوة في بيت مظلم تسد باب الحواس والتجرد عن الأهل والمال يقلل مداخل الوسواس من الباطن ويبقى مع ذلك مداخل باطنة في التخيلات الجارية في القلب وذلك لا يدفع إلا بشغل القلب بذكر الله تعالى ثم إنه لا يزال يجاذب القلب وينازعه ويلهيه عن ذكر الله تعالى فلا بد من مجاهدته وهذه مجاهدة لا آخر لها إلا الموت إذ نعم قد يقوى بحيث لا ينقاد له ويدفع عن نفسه شره بالجهاد ، ولكن لا يستغنى قط عن الجهاد والمدافعة ما دام الدم يجري في بدنه فإذا ما دام حيا فأبواب الشيطان مفتوحة إلى قلبه لا تنغلق ، وهي الشهوة والغضب والحسد والطمع والشره وغيرها كما سيأتي شرحها ومهما كان الباب مفتوحا والعدو غير غافل لم يدفع إلا بالحراسة والمجاهدة . لا يتخلص أحد من الشيطان ما دام حيا
قال رجل للحسن يا أبا سعيد أينام الشيطان ? فتبسم وقال : لو نام لاسترحنا فإذن لا خلاص للمؤمن منه نعم له سبيل إلى دفعه وتضعيف قوته ؛ قال صلى الله عليه وسلم - : إن المؤمن ينضي شيطانه كما ينضي أحدكم بعيره في سفره وقال شيطان المؤمن مهزول، وقال ابن مسعود قيس بن الحجاج قال لي شيطاني: دخلت فيك، وأنا مثل الجزور وأنا الآن مثل العصفور، وقلت: ولم ذاك، قال: تذيبني بذكر الله تعالى ، فأهل التقوى لا يتعذر عليهم سد أبواب الشيطان وحفظها بالحراسة ، أعني: الأبواب الظاهرة والطرق الجلية التي تفضي إلى المعاصي الظاهرة وإنما يتعثرون في طرقه الغامضة لأنهم لا يهتدون إليها فيحرسونها كما أشرنا إليه في غرور العلماء والوعاظ، والمشكل أن الأبواب المفتوحة إلى القلب للشيطان كثيرة، وباب الملائكة باب واحد وقد التبس ذلك الباب الواحد بهذه الأبواب الكثيرة، والعبد فيها كالمسافر الذي يبقى في بادية كثيرة الطرق غامضة المسالك في ليلة مظلمة، فلا يكاد يعلم الطريق لا بعين بصيرة وطلوع شمس مشرقة، والعين البصيرة ها هنا هي القلب المصفى بالتقوى، والشمس المشرقة هو العلم العزيز المستفاد من كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم مما يهدي إلى غوامض طرقه، وإلا فطرقه كثيرة غامضة، وقال رضي الله عنه خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما خطا ، وقال: هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمين الخط وعن شماله، ثم قال: هذه سبل، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم تلا: عبد الله بن مسعود وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل لتلك الخطوط، فبين صلى الله عليه وسلم كثرة طرقه وقد ذكرنا مثالا للطريق الغامض من طرقه ، وهو الذي يخدع به العلماء والعباد المالكين لشهواتهم الكافين عن المعاصي الظاهرة فلنذكر مثالا لطريقه الواضح الذي لا يخفى إلا أن يضطر الآدمي إلى سلوكه ، وذلك كما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : كان راهب في بني إسرائيل فعمد الشيطان إلى جارية فخنقها وألقى في قلوب أهلها أن دواءها عند الراهب فأتوا بها إليه فأبى أن يقبلها ، فلم يزالوا به حتى قبلها ، فلما كانت عنده ليعالجها أتاه الشيطان فزين له مقاربتها ولم يزل به حتى واقعها فحملت منه ، فوسوس إليه وقال : الآن تفتضح يأتيك أهلها فاقتلها ، فإن سألوك فقل : ماتت فقتلها ودفنها فأتي الشيطان أهلها فوسوس إليهم ، وألقى في قلوبهم أنه أحبلها ثم قتلها ودفنها ، فأتاه أهلها فسألوه عنها ، فقال : ماتت . فأخذوه ليقتلوه بها ، فأتاه الشيطان فقال : أنا الذي خنقتها وأنا الذي ألقيت في قلوب أهلها فأطعني تنج وأخلصك منهم قال: بماذا؟ قال: اسجد لي سجدتين ، فسجد له سجدتين فقال له الشيطان: إني بريء منك ، فهو الذي قال الله تعالى فيه : كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك فانظر الآن إلى حيله واضطراره الراهب إلى هذه الكبائر وكل ذلك لطاعته له في قبول الجارية للمعالجة ، وهو أمر هين ، وربما يظن صاحبه أنه خير وحسنة ، فيحسن ذلك في قلبه بخفي الهوى ، فيقدم عليه كالراغب في الخير ، فيخرج الأمر بعد ذلك عن اختياره ويجره البعض إلى البعض بحيث لا يجد محيصا، فنعوذ بالله من تضييع أوائل الأمور وإليه الإشارة بقوله -صلى الله عليه وسلم-: . من حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه
.