القلب الثاني : المشحون بالهوى المدنس بالأخلاق المذمومة والخبائث، المفتوح فيه أبواب الشياطين المسدود عنه أبواب الملائكة ، ومبدأ الشر فيه أن ينقدح فيه خاطر من الهوى ويهجس فيه فينظر القلب إلى حاكم العقل ليستفتي منه ويستكشف وجه الصواب فيه ، فيكون العقل قد ألف خدمة الهوى ، وأنس به ، واستمر على استنباط الحيل له وعلى مساعدة الهوى فتستولي ، النفس وتساعد عليه فينشرح الصدر بالهوى وتنبسط فيه ظلماته لانحباس جند العقل عن مدافعته . القلب المخذول
فيقوى سلطان الشيطان لاتساع مكانه بسبب انتشار الهوى فيقبل عليه بالتزيين والغرور والأماني ويوحي بذلك زخرفا من القول غرورا فيضعف سلطان الإيمان بالوعد والوعيد ويخبو نور اليقين لخوف الآخرة إذ يتصاعد عن الهوى دخان مظلم إلى القلب يملأ جوانبه حتى تنطفئ أنواره فيصير العقل كالعين التي ملأ الدخان أجفانها فلا يقدر على أن ينظر وهكذا تفعل غلبة الشهوة بالقلب حتى لا يبقى للقلب إمكان التوقف والاستبصار ولو بصره واعظ وأسمعه ما هو الحق فيه عمى عن الفهم وصم عن السمع ، وهاجت الشهوة فيه ، وسطا الشيطان وتحركت الجوارح على وفق الهوى فظهرت ، المعصية إلى عالم الشهادة من عالم الغيب بقضاء من الله تعالى وقدره وإلى مثل هذا القلب الإشارة بقوله تعالى : أرأيت من اتخذ إلهه هواه أفأنت تكون عليه وكيلا أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون إن هم إلا كالأنعام بل هم أضل سبيلا وبقوله عز وجل لقد حق القول على أكثرهم فهم لا يؤمنون وبقوله سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ورب قلب هذا حاله بالإضافة إلى بعض الشهوات كالذي يتورع عن بعض الأشياء ولكنه إذا رأى وجها حسنا لم يملك عينه وقلبه وطاش عقله وسقط مساك قلبه، أو كالذي لا يملك نفسه فيما فيه الجاه والرياسة والكبر ولا يبقى معه مسكة للتثبت عند ظهور أسبابه، أو كالذي لا يملك نفسه عند الغضب مهما استحقر وذكر عيب من عيوبه أو كالذي لا يملك نفسه عند القدرة على أخذ درهم أو دينار بل يتهالك عليه تهالك الواله المستهتر فينسى فيه المروءة والتقوى فكل ذلك لتصاعد دخان الهوى إلى القلب حتى يظلم وتنطفئ منه أنواره فينطفئ نور الحياء والمروءة والإيمان ويسعى في تحصيل مراد الشيطان .
القلب الثالث : فتنبعث النفس بشهوتها إلى نصرة خاطر الشر فتقوى الشهوة ويحسن التمتع والتنعم فينبعث العقل إلى خاطر الخير ويدفع في وجه الشهوة ويقبح فعلها وينسبها إلى الجهل ويشبهها بالبهيمة والسبع في تهجمها على الشر وقلة اكتراثها بالعواقب فتميل النفس إلى نصح العقل فيحمل الشيطان حملة على العقل فيقوى داعي الهوى ويقول : ما هذا التحرج البارد ولم تمتنع عن هواك فتؤذي نفسك ، وهل ترى أحدا من أهل عصرك يخالف هواه أو يترك غرضه أفتترك لهم ملاذ الدنيا يتمتعون بها وتحجر على نفسك حتى تبقى محروما شقيا متعوبا يضحك عليك أهل الزمان أفتريد ، أن يزيد منصبك على فلان وفلان وقد فعلوا مثل ما اشتهيت ولم يمتنعوا أما ترى العالم الفلاني ليس يحترز من مثل ذلك ، ولو كان ذلك شرا لامتنع منه فتميل النفس إلى الشيطان وتنقلب إليه فيحمل الملك حملة على الشيطان ، ويقول : هل لك إلا من اتبع لذة الحال ونسي العاقبة أفتقنع بلذة يسيرة وتترك لذة الجنة ونعيمها أبد الآباد أم تستثقل ألم الصبر عن شهوتك ولا تستثقل ألم النار أتغتر بغفلة الناس عن أنفسهم واتباعهم هواهم ومساعدتهم الشيطان مع أن عذاب النار لا يخففه عنك معصية غيرك أرأيت لو كنت في يوم صائف شديد الحر ، ووقف الناس كلهم في الشمس ، وكان لك بيت بارد أكنت تساعد الناس أو تطلب لنفسك الخلاص فكيف تخالف الناس خوفا من حر الشمس ولا تخالفهم خوفا من حر النار ؟! فعند ذلك تمتثل النفس إلى قول الملك فلا يزال يتردد بين الجندين متجاذبا بين الحزبين إلى أن يغلب على القلب ما هو أولى به ، فإن كانت الصفات التي في القلب الغالب عليها الصفات الشيطانية التي ذكرناها غلب الشيطان ومال القلب إلى جنسه من أحزاب الشيطان معرضا عن حزب الله تعالى وأوليائه ومساعدا لحزب الشيطان وأعدائه وجرى على جوارحه بسابق القدر ما هو سبب بعده عن الله تعالى ، وإن كان الأغلب على القلب الصفات الملكية لم يصغ القلب إلى إغواء الشيطان . قلب تبدو فيه خواطر الهوى فتدعوه إلى الشر فيلحقه خاطر الإيمان فيدعوه إلى الخير
وتحريضه إياه على العاجلة وتهوينه أمر الآخرة بل مال إلى حزب الله تعالى ، وظهرت الطاعة بموجب ما سبق من القضاء على جوارحه فقلب - -: " أي : بين تجاذب هذين الجندين وهو الغالب أعني التقليب والانتقال من حزب إلى حزب . المؤمن بين إصبعين من أصابع الرحمن "