بيان حقيقة حسن الخلق وسوء الخلق .
اعلم أن الناس قد تكلموا في ، وأنه ما هو ، وما تعرضوا لحقيقته وإنما تعرضوا لثمرته ثم لم يستوعبوا جميع ثمراته ، بل ذكر كل واحد من ثمراته ما خطر له وما كان حاضرا في ذهنه ولم يصرفوا العناية إلى ذكر حده وحقيقته المحيطة بجميع ثمراته على التفصيل والاستيعاب وذلك كقول حقيقة حسن الخلق الحسن حسن الخلق بسط الوجه .
وبذل الندى وكف الأذى ، وقال الواسطي هو أن لا يخاصم ولا يخاصم من شدة معرفته بالله تعالى ، وقال شاه الكرماني هو كف الأذى واحتمال المؤن وقال بعضهم : هو أن يكون من الناس قريبا وفيما بينهم غريبا وقال الواسطي : مرة هو إرضاء الخلق في السراء والضراء وقال أبو عثمان هو الرضا عن الله تعالى وسئل سهل التستري عن حسن الخلق فقال : أدناه الاحتمال وترك المكافأة والرحمة للظالم والاستغفار له والشفقة عليه وقال مرة : أن لا يتهم الحق في الرزق ويثق به ويسكن إلى الوفاء بما ضمن فيطيعه ولا يعصيه في جميع الأمور فيما بينه وبينه ، وفيما بينه وبين الناس وقال رضي الله عنه : حسن الخلق في ثلاث خصال اجتناب المحارم وطلب الحلال والتوسعة على العيال وقال علي الحسين بن منصور هو أن لا يؤثر فيك جفاء الخلق بعد مطالعتك للحق وقال أبو سعيد الخراز هو أن لا يكون لك هم غير الله تعالى فهذا وأمثاله كثير وهو تعرض لثمرات حسن الخلق لا لنفسه ثم ليس هو محيطا بجميع الثمرات أيضا وكشف الغطاء عن الحقيقة أولى من نقل الأقاويل المختلفة ، فنقول : الخلق والخلق عبارتان مستعملتان معا ، يقال : فلان حسن الخلق والخلق أي : حسن الباطن والظاهر ، فيراد بالخلق الصورة الظاهرة ويراد بالخلق الصورة الباطنة ، وذلك لأن الإنسان مركب من جسد مدرك بالبصر ومن روح ونفس مدرك بالبصيرة ولكل واحد منهما هيئة وصورة إما قبيحة وإما جميلة فالنفس المدركة بالبصيرة أعظم قدرا من الجسد المدرك بالبصر ، ولذلك عظم الله أمره بإضافته إليه إذ قال تعالى : إني خالق بشرا من طين فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين فنبه على أن الجسد منسوب إلى الطين ، والروح إلى رب العالمين والمراد بالروح والنفس في هذا المقام واحد فالخلق عبارة عن هيئة في النفس راسخة عنها تصدر الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة المحمودة عقلا وشرعا سميت تلك الهيئة خلقا حسنا ، وإن كان الصادر عنها الأفعال القبيحة سميت الهيئة التي هي المصدر خلقا سيئا ، وإنما قلنا : إنها هيئة راسخة لأن من يصدر منه بذل المال على الندور لحاجة عارضة لا يقال : خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه ثبوت رسوخ وإنما اشترطنا أن تصدر منه الأفعال بسهولة من غير روية لأن من تكلف بذل المال أو السكوت عند الغضب بجهد وروية لا يقال : خلقه السخاء والحلم .
فههنا أربعة أمور: أحدها : فعل الجميل والقبيح .
. والثاني : القدرة عليهما .
والثالث : المعرفة بهما .
والرابع : هيئة للنفس بها تميل إلى أحد الجانبين ويتيسر عليها أحد الأمرين إما الحسن وإما القبيح .
وليس الخلق عبارة عن الفعل فرب شخص خلقه السخاء ولا يبذل ، إما لفقد المال أو لمانع وربما يكون خلقه البخل وهو يبذل إما لباعث أو لرياء ، وليس هو عبارة عن القوة لأن نسبة القوة إلى الإمساك والإعطاء ، بل إلى الضدين واحد ، وكل إنسان خلق بالفطرة قادر على الإعطاء والإمساك ، وذلك لا يوجب خلق البخل ولا خلق السخاء وليس هو عبارة عن المعرفة فإن المعرفة تتعلق بالجميل والقبيح جميعا على وجه واحد ، بل هو عبارة عن المعنى الرابع وهو الهيئة التي بها تستعد النفس لأن يصدر منها الإمساك أو البذل ،وكما أن حسن الصورة الظاهرة مطلقا لا يتم بحسن العينين دون الأنف والفم والخد بل لا بد من حسن الجميع ليتم حسن الظاهر ، فكذلك في الباطن أربعة أركان لا بد من الحسن في جميعها ، حتى يتم حسن الخلق ، فإذا استوت الأركان الأربعة واعتدلت وتناسبت حصل حسن الخلق وهو قوة العلم وقوة الغضب وقوة الشهوة وقوة العدل بين هذه القوى الثلاث . فالخلق إذا عبارة عن هيئة النفس وصورتها الباطنة
أما قوة العلم فحسنها وصلاحها في أن تصير بحيث يسهل بها درك الفرق بين الصدق والكذب في الأقوال وبين الحق والباطل في الاعتقادات ، وبين الجميل والقبيح في الأفعال فإذا صلحت هذه القوة حصل منها ثمرة الحكمة والحكمة رأس الأخلاق الحسنة وهي التي قال الله فيها : ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا .
وأما قوة الغضب فحسنها في أن يصير انقباضها وانبساطها على حد ما تقتضيه الحكمة وكذلك الشهوة حسنها وصلاحها في أن تكون تحت إشارة الحكمة أعني : إشارة العقل والشرع .
وأما قوة العدل فهو ضبط الشهوة والغضب تحت إشارة العقل والشرع .
فالعقل مثاله مثال الناصح المشير .
وقوة العدل هي القدرة ومثالها مثال المنفذ الممضي لإشارة العقل .
والغضب هو الذي تنفد فيه الإشارة ومثاله مثال كلب الصيد فإنه يحتاج إلى أن يؤدب حتى يكون استرساله وتوقفه بحسب الإشارة لا بحسب هيجان شهوة النفس والشهوة مثالها ، مثال الفرس الذي يركب في طلب الصيد ، فإنه تارة يكون مروضا مؤدبا وتارة يكون جموحا فمن استوت فيه هذه الخصال واعتدلت فهو حسن الخلق مطلقا ، ومن اعتدل فيه بعضها دون البعض فهو حسن الخلق بالإضافة إلى ذلك المعنى خاصة كالذي يحسن بعض أجزاء وجهه دون بعض وحسن القوة الغضبية واعتدالها يعبر عنه بالشجاعة وحسن قوة الشهوة واعتدالها يعبر عنه بالعفة .
فإن مالت قوة الغضب عن الاعتدال إلى طرف الزيادة تسمى تهورا وإن مالت إلى الضعف والنقصان تسمى ، جبنا وخورا .
وإن مالت قوة الشهوة إلى طرف الزيادة تسمى شرها وإن مالت إلى النقصان تسمى جمودا .
والمحمود هو الوسط وهو الفضيلة والطرفان رذيلتان مذمومتان والعدل إذا فات فليس له طرفا زيادة ونقصان ، بل له ضد واحد ومقابل وهو الجور .
وأما الحكمة فيسمى إفراطها عند الاستعمال في الأغراض الفاسدة خبثا وجربزة ويسمى تفريطها بلها والوسط هو الذي يختص باسم الحكمة .
فإذن ، أمهات الأخلاق وأصولها أربعة : الحكمة والشجاعة والعفة والعدل ونعني بالحكمة حالة للنفس بها يدرك الصواب من الخطأ في جميع الأفعال الاختيارية .
ونعني بالعدل حالة للنفس ، وقوة بها تسوس الغضب والشهوة وتحملهما على مقتضى الحكمة وتضبطهما ، في الاسترسال والانقباض على حسب مقتضاها ونعني بالشجاعة كون قوة الغضب منقادة للعقل في إقدامها وإحجامها ونعني بالعفة تأدب قوة الشهوة بتأديب العقل والشرع .
فمن اعتدال هذه الأصول الأربعة تصدر الأخلاق الجميلة كلها .
.