بيان تفصيل . الطريق إلى تهذيب الأخلاق
قد عرفت من قبل أن الاعتدال في الأخلاق هو صحة النفس ، والميل عن الاعتدال سقم ومرض فيها ، كما أن الاعتدال في مزاج البدن هو صحة له والميل عن الاعتدال مرض فيه فلنتخذ البدن مثالا فنقول: مثال النفس في علاجها بمحو الرذائل والأخلاق الرديئة عنها وجلب الفضائل والأخلاق الجميلة إليها مثال البدن في علاجه ، بمحو العلل عنه ، وكسب الصحة له وجلبها إليه وكما أن الغالب على أصل المزاج الاعتدال ، وإنما تعتري المعدة المضرة بعوارض الأغذية والأهوية والأحوال فكذلك كل مولود يولد معتدلا صحيح الفطرة .
وإنما أبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه أي بالاعتياد والتعليم تكتسب الرذائل وكما ، أن البدن في الابتداء لا يخلق كاملا ، وإنما يكمل ويقوى بالنشو والتربية بالغذاء فكذلك النفس تخلق ناقصة قابلة للكمال وإنما تكمل بالتربية وتهذيب الأخلاق والتغذية بالعلم وكما أن البدن إن كان صحيحا فشأن الطبيب تمهيد القانون الحافظ للصحة ، وإن كان مريضا فشأنه جلب الصحة إليه فكذلك ، النفس منك إن كانت زكية طاهرة مهذبة ، فينبغي أن تسعى لحفظها ، وجلب مزيد قوة إليها واكتساب زيادة صفائها وإن كانت عديمة الكمال والصفاء ، فينبغي أن تسعى لجلب ذلك إليها وكما أن العلة المغيرة لاعتدال البدن الموجبة المرض لا تعالج إلا بضدها .فإن كانت من حرارة فبالبرودة ، وإن كانت من برودة فبالحرارة فكذلك ، الرذيلة التي هي مرض القلب علاجها بضدها فيعالج مرض الجهل بالتعلم ومرض البخل بالتسخي ومرض الكبر بالتواضع ، ومرض الشره بالكف عن المشتهى تكلفا وكما ، أنه لا بد من الاحتمال لمرارة الدواء وشدة الصبر عن المشتهيات لعلاج الأبدان المريضة فكذلك لا بد من احتمال مرارة المجاهدة ، والصبر لمداواة مرض القلب بل أولى ، فإن مرض البدن يخلص منه بالموت ومرض القلب والعياذ بالله تعالى مرض يدوم بعد الموت أبد الآباد وكما أن كل مبرد لا يصلح لعلة سببها الحرارة إلا إذا كان على حد مخصوص ، ويختلف ذلك بالشدة والضعف والدوام وعدمه ، وبالكثرة والقلة ولا بد له من معيار يعرف به مقدار النافع منه فإنه إن لم يحفظ معياره زاد الفساد فكذلك النقائض التي تعالج بها الأخلاق لا بد لها من معيار وكما أن معيار الدواء مأخوذ من معيار العلة حتى إن الطبيب لا يعالج ما لم يعرف أن العلة من حرارة أو برودة فإن كانت من حرارة فيعرف درجتها أهي ضعيفة أم قوية فإذا عرف ذلك التفت إلى أحوال البدن وأحوال الزمان وصناعة المريض وسنه وسائر أحواله ثم يعالج بحسبها .
فكذلك الشيخ المتبوع الذي يطبب نفوس المريدين ويعالج قلوب المسترشدين ينبغي أن لا يهجم عليهم بالرياضة والتكاليف في فن مخصوص وفي طريق مخصوص ، ما لم يعرف أخلاقهم وأمراضهم وكما أن الطبيب لو عالج جميع المرضى بعلاج واحد قتل أكثرهم ، فكذلك الشيخ لو أشار على المريدين بنمط واحد من الرياضة أهلكهم وأمات قلوبهم بل ينبغي أن ينظر في مرض المريد ، وفي حاله وسنه ، ومزاجه ، وما تحتمله بنيته من الرياضة ، ويبني على ذلك رياضته فإن كان المريد مبتدئا جاهلا بحدود الشرع فيعلمه أولا الطهارة والصلاة وظواهر العبادات وإن كان مشغولا بمال حرام أو مقارفا لمعصية فيأمره أولا بتركها فإذا تزين ظاهره بالعبادات وطهر عن المعاصي الظاهرة جوارحه نظر بقرائن الأحوال إلى باطنه ليتفطن لأخلاقه وأمراض قلبه ، فإن رأى معه مالا فاضلا عن قدر ضرورته أخذه منه وصرفه إلى الخيرات وفرغ قلبه منه حتى لا يلتفت إليه وإن رأى الرعونة والكبر وعزة النفس غالبة عليه فيأمره أن يخرج إلى الأسواق للكدية والسؤال فإن عزة النفس والرياسة لا تنكسر إلا بالذل ، ولا ذل أعظم من ذل السؤال فيكلفه المواظبة على ذلك مدة حتى ينكسر كبره وعز نفسه فإن وكذلك الرعونة وإن رأى الغالب عليه النظافة في البدن والثياب ورأى ، قلبه مائلا إلى ذلك فرحا به ملتفتا إليه استخدمه ، في تعهد بيت الماء وتنظيفه وكنس المواضع القذرة وملازمة المطبخ ومواضع الدخان حتى تتشوش عليه رعونته في النظافة فإن الذين ينظفون ثيابهم ويزينونها ويطلبون المرقعات النظيفة والسجادات الملونة لا فرق بينهم وبين العروس التي تزين نفسها طول النهار فلا فرق بين أن يعبد الإنسان نفسه أو يعبد صنما فمهما عبد غير الله تعالى فقد حجب عن الله ، ومن راعى في ثوبه شيئا سوى كونه حلالا وطاهرا مراعاة يلتفت إليها قلبه فهو مشغول بنفسه . الكبر من الأمراض المهلكة
ومن لطائف الرياضة إذا كان المريد لا يسخو بترك الرعونة رأسا أو بترك صفة أخرى ولم يسمح بضدها دفعة فينبغي أن ينقله من الخلق المذموم إلى خلق مذموم آخر أخف منه كالذي يغسل الدم بالبول ثم يغسل البول بالماء إذا كان الماء لا يزيل الدم كما يرغب الصبي في المكتب باللعب بالكرة والصولجان وما أشبهه ثم ينقل من اللعب إلى الزينة وفاخر الثياب ، ثم ينقل من ذلك بالترغيب في الرياسة وطلب الجاه ثم ينقل من الجاه بالترغيب في الآخرة فكذلك من لم تسمح نفسه بترك الجاه دفعة فلينقل إلى جاه أخف منه وكذلك سائر الصفات ، وكذلك إذا رأى شره الطعام غالبا عليه ألزمه الصوم وتقليل الطعام ، ثم يكلفه أن يهيئ الأطعمة اللذيذة ، ويقدمها إلى غيره وهو لا يأكل منها حتى يقوي بذلك نفسه ، فيتعود الصبر وينكسر شرهه ، وكذلك إذا رآه شابا متشوقا إلى النكاح وهو عاجز عن الطول فيأمره بالصوم وربما لا تسكن شهوته بذلك فيأمره أن يفطر ليلة على الماء دون الخبز وليلة على الخبز دون الماء ، ويمنعه اللحم والأدم رأسا حتى تذل نفسه وتنكسر شهوته ، فلا علاج في مبدأ الإرادة أنفع من الجوع وإن رأى الغضب غالبا عليه ألزمه الحلم والسكوت ، وسلط عليه من يصحبه ممن فيه سوء خلق ويلزمه خدمة من ساء خلقه حتى يمرن نفسه على الاحتمال معه .
كما حكي عن ، بعضهم أنه كان يعود نفسه الحلم ويزيل عن نفسه شدة الغضب ، فكان يستأجر من يشتمه على ملأ من الناس ويكلف نفسه الصبر ويكظم غيظه حتى صار الحلم عادة له بحيث كان يضرب به المثل وبعضهم كان يستشعر في نفسه الجبن وضعف القلب فأراد ، أن يحصل لنفسه خلق الشجاعة ، فكان يركب البحر في الشتاء عند اضطراب الأمواج وعباد الهند يعالجون الكسل عن العبادة بالقيام طول الليل على نصبة واحدة وبعض الشيوخ في ابتداء إرادته كان يكسل عن القيام ، فألزم نفسه القيام على رأسه طول الليل ليسمح بالقيام على الرجل عن طوع وعالج بعضهم حب المال بأن باع جميع ماله ورمى به في البحر إذ خاف من تفرقته على الناس رعونة الجود والرياء بالبذل .
فهذه الأمثلة تعرفك طريق معالجة القلوب وليس ، غرضنا ذكر دواء كل مرض فإن ذلك سيأتي في بقية الكتب وإنما غرضنا الآن التنبيه على أن الطريق الكلي فيه سلوك مسلك المضاد لكل ما تهواه النفس وتميل إليه ، وقد جمع الله ذلك كله في كتابه العزيز في كلمة واحدة فقال تعالى وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى ، والأصل المهم في المجاهدة الوفاء بالعزم فإذا عزم على ترك شهوة فقد تيسرت أسبابها ، ويكون ذلك ابتلاء من الله تعالى واختبارا فينبغي أن يصبر ويستمر فإنه إن عود نفسه ترك العزم ألفت ذلك ففسدت ، وإذا اتفق منه نقض عزم فينبغي أن يلزم نفسه عقوبة عليه كما ذكرناه في معاقبة النفس في كتاب المحاسبة والمراقبة وإذا لم يخوف النفس بعقوبة غلبته وحسنت عنده تناول الشهوة فتفسد بها الرياضة بالكلية .