الآفة الثانية أن يقدر على ترك الشهوات لكنه يفرح أن يعرف به فيشتهر بالتعفف عن الشهوات فقد خالف شهوة ضعيفة ، وهي شهوة الأكل ، وأطاع شهوة هي شر منها ، وهي وتلك هي الشهوة الخفية فمهما أحس بذلك من نفسه ، فكسر هذه الشهوة آكد من كسر شهوة الطعام ، فليأكل ؛ فهو أولى له ، قال شهوة الجاه أبو سليمان إذا قدمت إليك شهوة ، وقد كنت تاركا لها ، فأصب منها شيئا يسيرا ، ولا تعط نفسك مناها ، فتكون قد أسقطت عن نفسك الشهوة وتكون قد نغصت ، عليها إذا لم تعطها شهوتها وقال جعفر بن محمد الصادق إذا قدمت إلى شهوة نظرت إلى نفسي ، فإن هي أظهرت شهوتها أطعمتها منها ، وكان ذلك أفضل من منعها ، وإن أخفت شهوتها وأظهرت العزوب عنها عاقبتها بالترك ، ولم أنلها منها شيئا وهذا طريق في عقوبة النفس على هذه الشهوة الخفية .
وبالجملة من ترك شهوة الطعام ووقع في كان كمن هرب من عقرب وفزع إلى حية لأن شهوة الرياء أضر كثيرا من شهوة الطعام، والله ولي التوفيق. . شهوة الرياء
القول في . شهوة الفرج:
اعلم أن شهوة الوقاع سلطت على الإنسان لفائدتين: إحداهما أن يدرك لذته فيقيس به لذات الآخرة. .
فإن لذة الوقاع لو دامت لكانت أقوى لذات الأجساد كما أن النار وآلامها أعظم آلام الجسد، والترغيب والترهيب يسوق الناس إلى سعادتهم، وليس ذلك إلا بألم محسوس ولذة محسوسة مدركة، فإن ما لا يدرك بالذوق لا يعظم إليه الشوق. .
الفائدة الثانية بقاء النسل ودوام الوجود فهذه فائدتها ولكن فيها من الآفات ما يهلك الدين والدنيا إن لم تضبط ولم تقهر ولم ترد إلى حد الاعتدال، وقد قيل في تأويل قوله تعالى: ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به معناه شدة الغلمة .
وعن ابن عباس في قوله تعالى: ومن شر غاسق إذا وقب قال: هو قيام الذكر. وقد أسنده بعض الرواة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أنه قال في تفسيره: الذكر إذا دخل وقد قيل: إذا قام ذكر الرجل ذهب ثلثا عقله، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي وبصري وقلبي وهني ومني. وقال صلى الله عليه وسلم: ولولا هذه الشهوة لما كان للنساء سلطنة على الرجال. . النساء حبائل الشيطان،
روي أن موسى عليه السلام كان جالسا في بعض مجالسه إذا أقبل إليه إبليس وعليه برنس يتلون فيه ألوانا، فلما دنا منه خلع البرنس، فوضعه ثم أتاه، فقال: السلام عليك يا موسى، فقال له موسى: من أنت؟ فقال: أنا إبليس، فقال: لا حياك الله، ما جاء بك؟ قال: جئت لأسلم عليك لمنزلتك من الله ومكانتك منه، قال: فما الذي رأيت عليك؟ قال: برنس أختطف به قلوب بني آدم، قال: فما الذي إذا صنعه الإنسان استحوذت عليه؟ قال: إذا أعجبته نفسه واستكثر عمله ونسي ذنوبه، وأحذرك ثلاثا: لا تخل بامرأة لا تحل لك؛ فإنه ما خلا رجل بامرأة لا تحل له إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أفتنه بها وأفتنها به، ولا تعاهد الله عهدا إلا وفيت به، ولا تخرجن صدقة إلا أمضيتها؛ فإنه ما أخرج رجل صدقة فلم يمضها إلا كنت صاحبه دون أصحابي حتى أحول بينه وبين الوفاء بها. ثم ولى وهو يقول: يا ويلتاه علم موسى ما يحذر به بني آدم! .
وعن سعيد بن المسيب قال: ما بعث الله نبيا فيما خلا إلا لم ييأس إبليس أن يهلكه بالنساء، ولا شيء أخوف عندي منهن. وما بالمدينة بيت أدخله إلا بيتي وبيت ابنتي أغتسل فيه يوم الجمعة ثم أروح .
وقال بعضهم: إن الشيطان يقول للمرأة: أنت نصف جندي وأنت سهمي الذي أرمي به فلا أخطئ وأنت موضع سري وأنت رسولي في حاجتي؛ فنصف جنده الشهوة ونصف جنده الغضب . .
وهذه الشهوة أيضا لها إفراط وتفريط واعتدال؛ فالإفراط ما يقهر العقل حتى يصرف همة الرجال إلى الاستمتاع بالنساء والجواري، فيحرم عن سلوك طريق الآخرة أو يقهر الدين حتى يجر إلى اقتحام الفواحش، وقد ينتهي إفراطها بطائفة إلى أمرين شنيعين : . وأعظم الشهوات شهوة النساء،
أحدهما أن يتناولوا ما يقوي شهواتهم على الاستكثار من الوقاع كما قد يتناول بعض الناس أدوية تقوي المعدة لتعظم شهوة الطعام، وما مثال ذلك إلا كمن ابتلي بسباع ضارية وحيات عادية، فتنام عنه في بعض الأوقات؛ فيحتال لإثارتها وتهييجها ثم يشتغل بإصلاحها وعلاجها؛ فإن شهوة الطعام والوقاع على التحقيق آلام يريد الإنسان الخلاص منها، فيدرك لذة بسبب الخلاص .
فإن قلت: فقد روي في غريب الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: شكوت إلى جبرائيل ضعف الوقاع؛ فأمرني بأكل الهريسة؛ فاعلم أنه صلى الله عليه وسلم كان تحته تسع نسوة ووجب عليه تحصينهن بالإمتاع وحرم على غيره نكاحهن وإن طلقهن، فكان طلبه القوة لهذا لا للتمتع .
والأمر الثاني أنه قد تنتهي هذه الشهوة ببعض الضلال إلى العشق وهو غاية الجهل بما وضع له الوقاع؛ وهو مجاوزة في البهيمية لحد البهائم؛ لأن المتعشق ليس يقنع بإراقة شهوة الوقاع، وهي أقبح الشهوات وأجدرها أن يستحي منه حتى أعتقد أن الشهوة لا تنقضي إلا من محل واحد، والبهيمة تقضي الشهوة أين اتفق فتكتفي به وهذا لا يكتفي إلا بشخص واحد معين حتى يزداد به ذلا إلى ذل وعبودية إلى عبودية وحتى يستسخر العقل لخدمة الشهوة وقد خلق ليكون مطاعا لا ليكون خادما للشهوة ومحتالا لأجلها، وما العشق إلا سعة إفراط الشهوة وهو مرض قلب فارغ لا هم له، وإنما يجب الاحتراز من أوائله بترك معاودة النظر والفكر وإلا فإذا استحكم عسر دفعه، فكذلك عشق المال والجاه والعقار والأولاد حتى حب اللعب بالطيور والنرد والشطرنج؛ فإن هذه الأمور قد تستولي على طائفة بحيث تنغص عليهم الدين والدنيا ولا يصبرون عنها البتة .
ومثال من يكثر سورة العشق في أول انبعاثه مثال من يصرف عنان الدابة عند توجهها إلى باب لتدخله، وما أهون منعها بصرف عنانها! ومثال من يعالجها بعد استحكامها مثل من يترك الدابة حتى تدخل وتجاوز الباب ثم يأخذ بذنبها ويجرها إلى ورائها، وما أعظم التفاوت بين الأمرين في اليسر والعسر! فليكن الاحتياط في بدايات الأمور، فأما في أواخرها فلا تقبل العلاج إلا بجهد جهيد يكاد يؤدي إلى نزع الروح .
فإذن إفراط الشهوة أن يغلب العقل إلى هذا الحد وهو مذموم جدا، وتفريطها بالعنة أو بالضعف عن إمتاع المنكوحة وهو أيضا مذموم، وإنما المحمود أن تكون معتدلة ومطيعة للعقل والشرع في انقباضها وانبساطها، ومهما أفرطت فكسرها بالجوع والنكاح؛ قال صلى الله عليه وسلم: معاشر الشباب، عليكم بالباءة؛ فمن لم يستطع فعليه بالصوم؛ فالصوم له وجاء. .