وأما
nindex.php?page=treesubj&link=18758الأسباب الخارجة التي يتعرض لها الإنسان ، فكالسيف ، والسنان ، وسائر المهلكات التي يقصد بها ، فافتقر إلى قوة ، وحمية تثور من باطنه ، فتدفع المهلكات عنه ، فخلق الله طبيعة الغضب من النار وغرزها في الإنسان وعجنها ، بطينته فمهما صد عن ، غرض من أغراضه ، ومقصود من مقاصده اشتعلت نار الغضب ، وثارت ثورانا يغلي به دم القلب وينتشر في العروق ويرتفع إلى أعالي البدن كما ترتفع النار ، وكما يرتفع الماء الذي يغلي في القدر فلذلك ، ينصب إلى الوجه ، فيحمر الوجه ، والعين ، والبشرة لصفائها تحكي لون ما وراءها من حمرة الدم ، كما تحكي الزجاجة لون ما فيها وإنما ينبسط الدم إذا غضب على من دونه ، واستشعر القدرة عليه ، فإن صدر الغضب على من فوقه وكان معه يأس من الانتقام تولد منه انقباض الدم من ظاهر الجلد إلى جوف القلب ، وصار حزنا ; ولذلك يصفر اللون وإن كان الغضب على نظير يشك فيه تردد الدم بين انقباض وانبساط ، فيحمر ، ويصفر ، ويضطرب .
وبالجملة ، فقوة الغضب محلها القلب ، ومعناها غليان دم القلب بطلب الانتقام ، وإنما تتوجه هذه القوة عند ثورانها إلى دفع المؤذيات ، قبل وقوعها ، وإلى التشفي والانتقام بعد وقوعها ، والانتقام قوت هذه القوة ، وشهوتها ، وفيه لذتها ، ولا تسكن إلا به ، ثم إن الناس في هذه القوة على درجات ثلاث في أول الفطرة من التفريط ، والإفراط ، والاعتدال .
; أما التفريط فبفقد هذه القوة أو ضعفها ، وذلك مذموم ، وهو الذي يقال فيه : إنه لا حمية له ولذلك قال
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشافعي رحمه الله من استغضب ، فلم يغضب ، فهو حمار فمن فقد قوة الغضب ، والحمية أصلا ، فهو ناقص جدا وقد
nindex.php?page=treesubj&link=31411وصف الله سبحانه أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بالشدة ، والحمية فقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=29أشداء على الكفار رحماء بينهم وقال لنبيه صلى الله عليه وسلم
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=73جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم الآية وإنما الغلظة ، والشدة من آثار قوة الحمية ، وهو الغضب .
وأما الإفراط ، فهو أن تغلب هذه الصفة حتى تخرج عن سياسة العقل ، والدين ، وطاعته ، ولا يبقى للمرء معها بصيرة ، ونظر ، وفكرة ولا اختيار ، بل يصير في صورة المضطر .
وسبب غلبته أمور غريزية وأمور اعتيادية فرب إنسان هو بالفطرة مستعد لسرعة الغضب حتى كأن صورته في الفطرة صورة غضبان ، ويعين على ذلك حرارة مزاج القلب لأن الغضب من النار .
كما قال صلى الله عليه وسلم وإنما برودة المزاج تطفئه ، وتكسر سورته .
وأما الأسباب الاعتيادية ، فهو أن يخالط قوما يتبجحون بتشفي الغيظ ، وطاعة الغضب ، ويسمون ذلك شجاعة ، ورجولية ، فيقول الواحد منهم : أنا الذي لا أصبر على المكر والمحال ولا أحتمل من أحد أمرا ومعناه لا عقل في ، ولا حلم ثم يذكره في معرض الفخر بجهله فمن سمعه رسخ في نفسه حسن الغضب ، وحب التشبه بالقوم ، فيقوى به الغضب .
وَأَمَّا
nindex.php?page=treesubj&link=18758الْأَسْبَابُ الْخَارِجَةُ الَّتِي يَتَعَرَّضُ لَهَا الْإِنْسَانُ ، فَكَالسَّيْفِ ، وَالسِّنَانِ ، وَسَائِرِ الْمُهْلِكَاتِ الَّتِي يَقْصِدُ بِهَا ، فَافْتَقَرَ إِلَى قُوَّةٍ ، وَحَمِيَّةٍ تَثُورُ مِنْ بَاطِنِهِ ، فَتَدْفَعُ الْمُهْلِكَاتِ عَنْهُ ، فَخَلَقَ اللَّهُ طَبِيعَةَ الْغَضَبِ مِنَ النَّارِ وَغَرَزَهَا فِي الْإِنْسَانِ وَعَجَنَهَا ، بِطِينَتِهِ فَمَهْمَا صُدَّ عَنْ ، غَرَضٍ مِنْ أَغْرَاضِهِ ، وَمَقْصُودٌ مِنْ مَقَاصِدِهِ اشْتَعَلَتْ نَارُ الْغَضَبِ ، وَثَارَتْ ثَوَرَانًا يَغْلِي بِهِ دَمُ الْقَلْبِ وَيَنْتَشِرُ فِي الْعُرُوقِ وَيَرْتَفِعُ إِلَى أَعَالِي الْبَدَنِ كَمَا تَرْتَفِعُ النَّارُ ، وَكَمَا يَرْتَفِعُ الْمَاءُ الَّذِي يَغْلِي فِي الْقِدْرِ فَلِذَلِكَ ، يَنْصَبُّ إِلَى الْوَجْهِ ، فَيَحْمَرُّ الْوَجْهُ ، وَالْعَيْنُ ، وَالْبَشَرَةُ لِصَفَائِهَا تَحْكِي لَوْنَ مَا وَرَاءَهَا مِنْ حُمْرَةِ الدَّمِ ، كَمَا تَحْكِي الزُّجَاجَةُ لَوْنَ مَا فِيهَا وَإِنَّمَا يَنْبَسِطُ الدَّمُ إِذَا غَضِبَ عَلَى مَنْ دُونَهُ ، وَاسْتَشْعَرَ الْقُدْرَةَ عَلَيْهِ ، فَإِنْ صَدَرَ الْغَضَبُ عَلَى مَنْ فَوْقَهُ وَكَانَ مَعَهُ يَأْسٌ مِنَ الِانْتِقَامِ تَوَلَّدَ مِنْهُ انْقِبَاضُ الدَّمِ مِنْ ظَاهِرِ الْجِلْدِ إِلَى جَوْفِ الْقَلْبِ ، وَصَارَ حُزْنًا ; وَلِذَلِكَ يَصْفَرُّ اللَّوْنُ وَإِنْ كَانَ الْغَضَبُ عَلَى نَظِيرٍ يَشُكُّ فِيهِ تَرَدُّدُ الدَّمِ بَيْنَ انْقِبَاضٍ وَانْبِسَاطٍ ، فَيَحْمَرُّ ، وَيَصْفَرُّ ، وَيَضْطَرِبُ .
وَبِالْجُمْلَةِ ، فَقُوَّةُ الْغَضَبِ مَحَلُّهَا الْقَلْبُ ، وَمَعْنَاهَا غَلَيَانُ دَمِ الْقَلْبِ بِطَلَبِ الِانْتِقَامِ ، وَإِنَّمَا تَتَوَجَّهُ هَذِهِ الْقُوَّةُ عِنْدَ ثَوَرَانِهَا إِلَى دَفْعِ الْمُؤْذِيَاتِ ، قَبْلَ وُقُوعِهَا ، وَإِلَى التَّشَفِّي وَالِانْتِقَامِ بَعْدَ وُقُوعِهَا ، وَالِانْتِقَامُ قُوتُ هَذِهِ الْقُوَّةِ ، وَشَهْوَتُهَا ، وَفِيهِ لَذَّتُهَا ، وَلَا تَسْكُنُ إِلَّا بِهِ ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ فِي هَذِهِ الْقُوَّةِ عَلَى دَرَجَاتٍ ثَلَاثٍ فِي أَوَّلِ الْفِطْرَةِ مِنَ التَّفْرِيطِ ، وَالْإِفْرَاطِ ، وَالِاعْتِدَالِ .
; أَمَّا التَّفْرِيطُ فَبِفَقْدِ هَذِهِ الْقُوَّةِ أَوْ ضِعْفِهَا ، وَذَلِكَ مَذْمُومٌ ، وَهُوَ الَّذِي يُقَالُ فِيهِ : إِنَّهُ لَا حَمِيَّةَ لَهُ وَلِذَلِكَ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=13790الشَّافِعِيُّ رَحِمَهُ اللَّهُ مَنِ اسْتُغْضِبَ ، فَلَمْ يَغْضَبْ ، فَهُوَ حِمَارٌ فَمَنْ فَقَدَ قُوَّةَ الْغَضَبِ ، وَالْحَمِيَّةِ أَصْلًا ، فَهُوَ نَاقِصٌ جِدًّا وَقَدْ
nindex.php?page=treesubj&link=31411وَصَفَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالشِّدَّةِ ، وَالْحَمِيَّةِ فَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=48&ayano=29أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ وَقَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
nindex.php?page=tafseer&surano=9&ayano=73جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ الْآيَةَ وَإِنَّمَا الْغِلْظَةُ ، وَالشِّدَّةُ مِنْ آثَارِ قُوَّةِ الْحَمِيَّةِ ، وَهُوَ الْغَضَبُ .
وَأَمَّا الْإِفْرَاطُ ، فَهُوَ أَنْ تُغَلَّبَ هَذِهِ الصِّفَةُ حَتَّى تَخْرُجَ عَنْ سِيَاسَةِ الْعَقْلِ ، وَالدِّينِ ، وَطَاعَتِهِ ، وَلَا يَبْقَى لِلْمَرْءِ مَعَهَا بَصِيرَةٌ ، وَنَظَرٌ ، وَفِكْرَةٌ وَلَا اخْتِيَارَ ، بَلْ يَصِيرُ فِي صُورَةِ الْمُضْطَرِّ .
وَسَبَبُ غَلَبَتِهِ أُمُورٌ غَرِيزِيَّةٌ وَأُمُورٌ اعْتِيَادِيَّةٌ فَرُبَّ إِنْسَانٍ هُوَ بِالْفِطْرَةِ مُسْتَعِدٌّ لِسُرْعَةِ الْغَضَبِ حَتَّى كَأَنَّ صُورَتَهُ فِي الْفِطْرَةِ صُورَةُ غَضْبَانَ ، وَيُعِينُ عَلَى ذَلِكَ حَرَارَةُ مِزَاجِ الْقَلْبِ لِأَنَّ الْغَضَبَ مِنَ النَّارِ .
كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنَّمَا بُرُودَةُ الْمِزَاجِ تُطْفِئُهُ ، وَتَكْسِرُ سَوْرَتَهُ .
وَأَمَّا الْأَسْبَابُ الِاعْتِيَادِيَّةُ ، فَهُوَ أَنْ يُخَالِطَ قَوْمًا يَتَبَجَّحُونَ بِتَشَفِّي الْغَيْظِ ، وَطَاعَةِ الْغَضَبِ ، وَيُسَمُّونَ ذَلِكَ شَجَاعَةً ، وَرُجُولِيَّةً ، فَيَقُولُ الْوَاحِدُ مِنْهُمْ : أَنَا الَّذِي لَا أَصْبِرُ عَلَى الْمَكْرِ وَالْمُحَالِ وَلَا أَحْتَمِلُ مِنْ أَحَدٍ أَمْرًا وَمَعْنَاهُ لَا عَقْلَ فِيَّ ، وَلَا حِلْمَ ثُمَّ يُذْكَرَهُ فِي مَعْرِضِ الْفَخْرِ بِجَهْلِهِ فَمَنْ سَمِعَهُ رَسَّخَ فِي نَفْسِهِ حُسْنَ الْغَضَبِ ، وَحُبَّ التَّشَبُّهِ بِالْقَوْمِ ، فَيَقْوَى بِهِ الْغَضَبُ .