ثم هؤلاء أيضا يحتاجون إلى معيشة ، ولا يمكنهم الاشتغال بالحرف ، فتحدث الحاجة إلى مال الفرع مع مال الأصل ، وهو المسمى فرع الخراج ، وعند هذا يكون الناس في الصناعات ثلاث طوائف الفلاحون ، والرعاة ، والمحترفون .
والثانية : الجندية الحماة بالسيوف .
والثالثة : المترددون بين الطائفتين في الأخذ والعطاء ، وهم العمال والجباة ، وأمثالهم فانظر كيف ابتدأ الأمر من حاجة القوت والملبس ، والمسكن ، وإلى ماذا انتهى .
وهكذا أبواب أخر وهكذا تتناهى إلى غير حد محصور كأنها ، هاوية لا نهاية لعمقها ، من وقع في مهواة منها سقط منها إلى أخرى ، وهكذا على التوالي ، فهذه هي الحرف ، والصناعات إلا أنها لا تتم إلا بالأموال والآلات ، والمال عبارة عن أعيان الأرض ، وما عليها مما ينتفع به وأعلاها الأغذية ، ثم الأمكنة التي يأوي الإنسان إليها ، وهي الدور ، ثم الأمكنة التي يسعى فيها للتعيش كالحوانيت ، والأسواق ، والمزارع ، ثم الكسوة ، ثم أثاث البيت وآلاته ، ثم آلات الآلات وقد يكون في الآلات ما هو حيوان ; كالكلب آلة الصيد والبقر ، آلة الحراثة ، والفرس آلة الركوب في الحرب ، ثم يحدث من ذلك حاجة البيع ، فإن الفلاح ربما يسكن قرية ليس فيها آلة الفلاحة ، والحداد والنجار يسكنان قرية لا يمكن فيها الزراعة ، فبالضرورة يحتاج الفلاح إليهما ويحتاجان إلى الفلاح فيحتاج أحدهما أن يبذل ما عنده للآخر حتى يأخذ منه غرضه ، وذلك بطريق المعاوضة إلا أن النجار مثلا إذا طلب من الفلاح الغذاء بآلته ربما لا يحتاج الفلاح في ذلك الوقت إلى آلته ، فلا يبيعه ، والفلاح إذا طلب الآلة من النجار بالطعام ربما كان عنده طعام في ذلك الوقت ، فلا يحتاج إليه ، فتتعوق الأغراض ، فاضطروا إلى حانوت يجمع آلة كل صناعة ليترصد بها صاحبها أرباب الحاجات وإلى أبيات يجمع إليها ما يحمل الفلاحون فيشتريه منهم صاحب الأبيات ليترصد ، به أرباب الحاجات فظهرت لذلك الأسواق ، والمخازن ، فيحمل الفلاح الحبوب ، فإذا لم يصادف محتاجا باعها بثمن رخيص من الباعة فيخزنونها ، في انتظار أرباب الحاجات طمعا في الربح وكذلك في جميع الأمتعة ، والأموال ، ثم يحدث لا محالة بين البلاد ، والقرى تردد ، فيتردد الناس يشترون من القرى الأطعمة ، ومن البلاد الآلات ، وينقلون ذلك ، ويتعيشون به لتنتظم أمور الناس في البلاد بسببهم ; إذ كل بلد ربما لا توجد فيه كل آلة ، وكل قرية لا يوجد فيها كل طعام فالبعض ، يحتاج إلى البعض فيحوج إلى النقل ، فيحدث التجار المتكفلون بالنقل وباعثهم عليه حرص جمع المال لا محالة فيتعبون طول الليل والنهار في الأسفار لغرض غيرهم ، ونصيبهم منها جمع المال الذي يأكله لا محالة غيرهم ; إما قاطع طريق وإما سلطان ظالم ولكن جعل الله تعالى في غفلتهم وجهلهم نظاما للبلاد ، ومصلحة للعباد بل جميع أمور الدنيا انتظمت بالغفلة ، وخسة الهمة . أمور الدنيا لا يفتح منها باب إلا وينفتح بسببه
ولو عقل الناس وارتفعت هممهم لزهدوا في الدنيا ولو فعلوا ذلك لبطلت المعايش ، ولو بطلت لهلكوا ، ولهلك الزهاد أيضا .