وطائفة أخرى زعموا أنهم تفطنوا الأمر ، وهو أنه ليس المقصود أن يشقى الإنسان بالعمل ، ولا يتنعم في الدنيا ، بل السعادة في أن يقضي وطره من شهوة الدنيا ، وهي شهوة البطن ، والفرج فهؤلاء نسوا أنفسهم ، وصرفوا هممهم إلى اتباع النسوان وجمع لذائذ الأطعمة يأكلون كما تأكل الأنعام ، ويظنون أنهم إذا نالوا ذلك فقد ، أدركوا غاية السعادة فشغلهم ذلك عن الله تعالى وعن اليوم ، الآخر .
فهم يتعبون في الأسفار طول الليل والنهار ، ويترددون في الأعمال الشاقة ، ويكتسبون ويجمعون ، ولا يأكلون إلا قدر الضرورة شحا وبخلا عليها أن تنقص ، وهذه لذتهم ، وفي ذلك دأبهم وحركتهم إلى أن يدركهم الموت ، فيبقى تحت الأرض ، أو يظفر به من يأكله في الشهوات واللذات فيكون للجامع تعبه ووباله وللآكل لذته ثم الذين يجمعون ينظرون إلى أمثال ذلك ولا يعتبرون وطائفة ظنوا أن السعادة في حسن الاسم وانطلاق الألسنة بالثناء ، والمدح بالتجمل ، والمروءة ، فهؤلاء يتعبون في كسب المعاش ، ويضيقون على أنفسهم في المطعم والمشرب ويصرفون جميع مالهم إلى الملابس الحسنة والدواب النفيسة ويزخرفون أبواب الدور ، وما يقع عليها أبصار الناس حتى يقال : إنه غني ، وإنه ذو ثروة ، ويظنون أن ذلك هو السعادة فهمتهم ، في نهارهم وليلهم في تعهد موقع نظر الناس . وطائفة ظنوا أن السعادة في كثرة المال والاستغناء بكثرة الكنوز فأسهروا ، ليلهم ، وأتعبوا نهارهم في الجمع
وطائفة أخرى ظنوا أن السعادة في الجاه والكرامة بين الناس ، وانقياد الخلق بالتواضع ، والتوقير ، فصرفوا هممهم إلى استجرار الناس إلى الطاعة لطلب الولايات ، وتقلد الأعمال السلطانية ; لينفذ أمرهم بها على طائفة من الناس ، ويرون أنهم إذا اتسعت ولايتهم ، وانقادت لهم رعاياهم فقد سعدوا سعادة عظيمة ، وأن ذلك غاية المطلب ، وهذا أغلب الشهوات على قلوب الغافلين من الناس ، فهؤلاء ووراء هؤلاء طوائف يطول حصرها تزيد على نيف وسبعين فرقة ، كلهم قد ضلوا وأضلوا عن سواء السبيل وإنما جرهم إلى جميع ذلك حاجة المطعم ، والملبس ، والمسكن ونسوا ، ما تراد له هذه الأمور الثلاثة ، والقدر الذي يكفي منها ، وانجرت بهم أوائل أسبابها إلى أواخرها وتداعى بهم ذلك إلى مهاو لم يمكنهم الرقي منها ، فمن عرف وجه الحاجة إلى هذه الأسباب ، والأشغال ، وعرف غاية المقصود منها ، فلا يخوض في شغل ، وحرفة ، وعمل إلا وهو عالم بمقصوده ، وعالم بحظه ، ونصيبه منه وأن ، غاية مقصوده تعهد بدنه بالقوت والكسوة حتى لا يهلك وذلك إن سلك فيه سبيل التقليل اندفعت الأشغال عنه وفرغ القلب ، وغلب عليه ذكر الآخرة وانصرفت الهمة إلى الاستعداد له وإن تعدى به قدر الضرورة كثرت الأشغال ، وتداعى البعض إلى البعض ، وتسلسل إلى غير نهاية فتتشعب به الهموم ومن تشعبت به الهموم في أودية الدنيا فلا يبالي الله في أي واد أهلكه منها فهذا شأن المنهمكين في أشغال الدنيا وتنبه لذلك طائفة فأعرضوا عن الدنيا ، فحسدهم الشيطان ولم يتركهم وأضلهم في الإعراض أيضا حتى انقسموا إلى طوائف . شغلهم حب تواضع الناس لهم عن التواضع لله ، وعن عبادته ، وعن التفكر في آخرتهم ، ومعادهم ،
فظنت طائفة أن الدنيا دار بلاء ومحنة والآخرة دار سعادة لكل من وصل إليها سواء تعبد في الدنيا ، أو لم يتعبد ، فرأوا أن الصواب في أن يقتلوا أنفسهم للخلاص من محنة الدنيا وإليه ذهب طوائف من العباد من أهل الهند ، فهم يتهجمون على النار ويقتلون أنفسهم بالإحراق ويظنون أن ذلك خلاص لهم من محن الدنيا .