وكذلك العجب بالسكوت المباح محذور ، فهو عدول عن مباح إلى مباح حذرا من العجب .
فأما الكلام الحق المندوب إليه فلم ينص عليه ، على أن الآفة مما تعظم في الكلام ، فهو واقع في القسم الثاني وإنما كلامنا في العبادات الخاصة ببدن العبد مما لا يتعلق بالناس ، ولا تعظم فيه الآفات ، ثم كلام الحسن في تركهم البكاء وإماطة الأذى لخوف الشهرة ربما كان حكاية أحوال الضعفاء الذين لا يعرفون الأفضل ، ولا يدركون هذه الدقائق ، وإنما ذكره تخويفا للناس من آفة الشهرة وزجرا من ؛ طلبها .
القسم الثاني : ما يتعلق بالخلق ، وتعظم فيه الآفات والأخطار ، وأعظمها الخلافة ثم القضاء ثم التذكير والتدريس والفتوى ، ثم إنفاق المال .
أما ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : الخلافة والإمارة فهي من أفضل العبادات إذا كان ذلك مع العدل والإخلاص وقال صلى الله عليه وسلم: « ليوم من إمام عادل خير من عبادة الرجل وحده ستين عاما فأعظم بعبادة يوازي يوم منها عبادة ستين سنة! . « أول من يدخل الجنة ثلاثة : الإمام المقسط أحدهم
وقال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو هريرة ، وقال صلى الله عليه وسلم: « ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل أحدهم» « أقرب الناس مني مجلسا يوم القيامة إمام عادل » رواه . أبو سعيد الخدري
فالإمارة والخلافة من أعظم العبادات ، ولم يزل المتقون يتركونها ويحترزون منها ، ويهربون من تقلدها ؛ وذلك لما فيه من عظم الخطر ؛ إذ تتحرك بها الصفات الباطنة ، ويغلب النفس حب الجاه ، ولذة الاستيلاء ، ونفاذ الأمر ، وهو أعظم ملاذ الدنيا ، فإذا صارت الولاية محبوبة كان الوالي ساعيا في حظ نفسه ويوشك ، أن يتبع هواه ، فيمتنع من كل ما يقدح في جاهه وولايته ، وإن كان حقا ويقدم على ما يزيد في مكانته وإن كان باطلا ، وعند ذلك يهلك ، ويكون يوم من سلطان جائر شرا من فسق ستين سنة ، بمفهوم الحديث الذي ذكرناه .
ولهذا الخطر العظيم كان رضي الله عنه يقول : من يأخذها بما فيها ؟! وكيف لا وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : عمر » ما من والي عشرة إلا جاء يوم القيامة مغلولة يده إلى عنقه ، أطلقه عدله أو أوبقه جوره . . «
رواه وولاه عمر ولاية فقال : « يا أمير المؤمنين ، أشر علي قال : اجلس ، واكتم علي . معقل بن يسار
». وروى الحسن أن « رجلا ولاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال للنبي : خر لي قال : اجلس » . .
وكذلك حديث عبد الرحمن بن سمرة إذ قال له النبي صلى الله عليه وسلم : « يا عبد الرحمن لا تسأل الإمارة ؛ فإنك إن أوتيتها من غير مسألة أعنت عليها ، وإن أوتيتها عن مسألة وكلت إليها » . .
وقال رضي الله عنه لرافع بن عمر لا تأمر على اثنين ، ثم ولي هو الخلافة فقام بها ، فقال له أبو بكر رافع : ألم تقل لي : لا تأمر على اثنين ، وأنت قد وليت أمر أمة محمد ، صلى الله عليه وسلم ! فقال : بلى ، وأنا أقول لك ذلك ، فمن لم يعدل فيها فعليه بهلة الله يعني : لعنة الله .
ولعل القليل البصيرة يرى ما ورد من فضل الإمارة مع ما ورد من النهي عنها متناقضا ، وليس كذلك ، بل الحق فيه أن الخواص الأقوياء في الدين لا ينبغي أن يمتنعوا من تقلد الولايات وأن الضعفاء لا ينبغي أن يدوروا بها فيهلكوا وأعني بالقوي الذي لا تميله الدنيا ، ولا يستفزه الطمع ولا تأخذه في الله لومة لائم ، وهم الذين سقط الخلق عن أعينهم وزهدوا في الدنيا ، وتبرموا بها ، وبمخالطة الخلق وقهروا أنفسهم وملكوها وقمعوا الشيطان فأيس منهم فهؤلاء لا يحركهم إلا الحق ، ولا يسكنهم إلا الحق ، ولو زهقت فيهم أرواحهم ، فهم أهل نيل الفضل في الإمارة والخلافة ، ومن علم أنه ليس بهذه الصفة فيحرم عليه الخوض في الولايات .
ومن جرب نفسه فرآها صابرة على الحق كافة عن الشهوات في غير الولايات ولكن خاف عليها أن تتغير إذا ذاقت لذة الولاية ، وأن تستحلي الجاه ، وتستلذ نفاذ الأمر ، فتكره العزل فيداهن ؛ خيفة من العزل فهذا قد اختلف العلماء في أنه هل يلزمه الهرب من تقلد الولاية فقال قائلون : لا يجب ؛ لأن هذا خوف أمر في المستقبل وهو في الحال لم يعهد نفسه إلا قوية في ملازمة الحق ، وترك لذات النفس ، والصحيح أن عليه الاحتراز ؛ لأن النفس خداعة مدعية للحق ، واعدة بالخير ، فلو وعدت بالخير جزما لكان يخاف عليها أن تتغير عند الولاية ، فكيف إذا أظهرت التردد .
والامتناع عن قبول الولاية ؟! أهون من العزل بعد الشروع فالعزل ، مؤلم ، وهو كما قيل العزل : طلاق الرجال فإذا شرع لا تسمح نفسه بالعزل ، وتميل نفسه إلى المداهنة ، وإهمال الحق وتهوي ، به في قعر جهنم ولا يستطيع النزوع منه إلى الموت إلا أن يعزل قهرا وكان فيه عذاب عاجل على كل محب للولاية .
ومهما مالت النفس إلى طلب الولاية ، وحملت على السؤال والطلب فهو أمارة الشر ؛ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم أنا : . لا نولي أمرنا من سألنا