فلا فرق بينهما، فأما قول القائل: نهيك عن ذلك يؤدي إلى اندراس العلم فهو غلط إذ نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القضاء لم يؤد إلى تعطل القضاء، بل الرياسة وحبها يضطر الخلق إلى طلبها ، وكذلك حب الرياسة لا يترك العلوم تندرس ، بل لو حبس الخلق وقيدوا بالسلاسل والأغلال عن طلب العلوم التي فيها القبول والرياسة لأفلتوا من الحبس وقطعوا السلاسل وطلبوها . والقضاء والخلافة مما يحتاج الناس إليه في دينهم كالوعظ والتدريس والفتوى، وفي كل واحد منها فتنة ولذة،
وقد وعد الله أن يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم فلا تشغل قلبك بأمر الناس ؛ فإن الله لا يضيعهم ، وانظر لنفسك ثم إني أقول مع هذا : إذا كان في البلد جماعة يقومون بالوعظ مثلا ، فليس في النهي عنه إلا امتناع بعضهم ، وإلا فليعلم أن كلهم لا يمتنعون ، ولا يتركون لذة الرياسة ، فإن لم يكن في البلد إلا واحد وكان وعظه نافعا للناس من حيث حسن كلامه وحسن سمعته في الظاهر وتخييله إلى العوام أنه إنما يريد الله بوعظه وأنه تارك للدنيا ، ومعرض عنها ، فلا نمنعه منه ، ونقول له : اشتغل ، وجاهد نفسك فإن ، قال : لست أقدر على نفسي فنقول : اشتغل وجاهد ؛ لأنا نعلم أنه لو ترك ذلك لهلك الناس كلهم ؛ إذ لا قائم به غيره .
ولو واظب وغرضه الجاه فهو الهالك وحده وسلامة دين الجميع أحب عندنا من سلامة دينه وحده ، فنجعله فداء للقوم ، ونقول : لعل هذا هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الواعظ هو الذي يرغب في الآخرة، ويزهد في الدنيا بكلامه، وبظاهر سيرته، فأما ما أحدثه الوعاظ في هذه الأعصار من الكلمات المزخرفة والألفاظ المسجعة المقرونة بالأشعار مما ليس فيه تعظيم لأمر الدين، وتخويف للمسلمين، بل فيه الترجية والتجرئة على المعاصي بطيارات النكت، فيجب إخلاء البلاد منهم فإنهم نواب الدجال وخلفاء الشيطان وإنما كلامنا في واعظ حسن الوعظ، جميل الظاهر، يبطن في نفسه حب القبول، ولا يقصد غيره، وفيما أوردناه في كتاب العلم من الوعيد الوارد في حق علماء السوء ما يبين لزوم الحذر من فتن العلم وغوائله، ولهذا قال إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم المسيح عليه السلام تتوبون بالقول والأماني، وتعملون بالهوى، وما يغني عنكم أن تنقوا جلودكم وقلوبكم دنسة بحق أقول لكم: لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب وتبقى فيه النخالة، كذلك أنتم تخرجون الحكم من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم، يا عبيد الدنيا كيف يدرك الآخرة من لا تنقضي من الدنيا شهوته، ولا تنقطع منها رغبته، بحق أقول لكم: إن قلوبكم تبكي من أعمالكم جعلتم الدنيا تحت ألسنتكم، والعمل تحت أقدامكم بحق أقول لكم: أفسدتم آخرتكم بصلاح دنياكم، فصلاح الدنيا أحب إليكم من صلاح الآخرة، فأي ناس أخس منكم؟! لو تعلمون ويلكم! حتى متى تصفون الطريق للمدلجين وتقيمون في محلة المتحيرين كأنكم تدعون أهل الدنيا ليتركوها لكم مهلا مهلا! ويلكم! ماذا يغني عن البيت المظلم أن يوضع السراج فوق ظهره وجوفه وحش مظلم كذلك لا يغني عنكم أن يكون نور العلم بأفواهكم، وأجوافكم منه وحشة معطلة يا عبيد الدنيا، لا كعبيد أتقياء، ولا كأحرار كرام، توشك الدنيا أن تقلعكم عن أصولكم فتلقيكم على وجوهكم ثم تكبكم على مناخركم ثم تأخذ خطاياكم بنواصيكم، ثم يدفعكم العلم من خلفكم، ثم يسلمكم إلى الملك الديان حفاة عراة، فرادى، فيوقفكم على سوآتكم ثم يجزيكم بسوء أعمالكم . يا علماء السوء تصومون وتصلون وتتصدقون ولا تفعلون ما تؤمرون، وتدرسون ما لا تعلمون، فيا سوء ما تحكمون،
وقد روى الحارث المحاسبي هذا الحديث في بعض كتبه ثم قال: هؤلاء علماء السوء، شياطين الإنس، وفتنة على الناس رغبوا في عرض الدنيا ورفعتها، وآثروها على الآخرة، وأذلوا الدين للدنيا، فهم في العاجل عار وشين، وفي الآخرة هم الأخسرون .