فأما فمثاله قول بعضهم في أنفسهم وبألسنتهم إنه لو كان لله من معاد فنحن أحق به من غيرنا ، ونحن أوفر حظا فيه وأسعد حالا كما أخبر الله تعالى عنه من قول الرجلين المتحاورين ; إذ قال غرور الكفار بالله ; وما أظن الساعة قائمة ولئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا وجملة أمرهما كما نقل في التفسير أن الكافر منهما بنى قصرا بألف دينار ، واشترى بستانا بألف دينار ، وخدما بألف دينار ، وتزوج امرأة على ألف دينار ، وفي ذلك كله يعظه المؤمن ويقول اشتريت قصرا يفنى ويخرب ، ألا اشتريت قصرا في الجنة لا يفنى ، واشتريت بستانا يخرب ويفنى ، ألا اشتريت بستانا في الجنة لا يفنى وخدما لا يفنون ولا يموتون ، وزوجة من الحور العين لا تموت ، وفي كل ذلك يرد عليه الكافر ، ويقول : ما هناك شيء وما قيل من ذلك فهو أكاذيب وإن كان فليكونن لي في الجنة خير من هذا .
وكذلك وصف الله تعالى قول العاص ابن وائل إذ يقول لأوتين مالا وولدا فقال الله تعالى ردا عليه : أطلع الغيب أم اتخذ عند الرحمن عهدا كلا وروي عن خباب بن الأرت أنه قال : كان لي على العاص بن وائل دين فجئت أتقاضاه فلم يقض لي فقلت : إني آخذه في الآخرة ، فقال لي إذا صرت إلى الآخرة ، فإن لي هناك مالا وولدا أقضيك منه .
فأنزل الله تعالى قوله : أفرأيت الذي كفر بآياتنا وقال لأوتين مالا وولدا .
وقال تعالى: ولئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي وما أظن الساعة قائمة ولئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى الآية وهذا كله من الغرور بالله وسببه قياس من أقيسة إبليس، نعوذ بالله منه ؛ وذلك أنهم ينظرون مرة إلى نعم الله عليهم في الدنيا، فيقيسون عليه نعمة الآخرة، وينظرون مرة إلى تأخير العذاب عنهم، فيقيسون عليه عذاب الآخرة، كما قال تعالى: ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول فقال تعالى جوابا لقولهم: حسبهم جهنم يصلونها فبئس المصير ، ومرة ينظرون إلى المؤمنين، وهم فقراء شعث غبر فيزدرون بهم ويستحقرونهم، ويقولون: أهؤلاء من الله عليهم من بيننا ويقولون لو كان خيرا ما سبقونا إليه ، وترتيب القياس الذي نظمه في قلوبهم أنهم يقولون: قد أحسن الله إلينا بنعيم الدنيا، وكل محسن فهو محب، وكل محب فإنه يحسن أيضا في المستقبل ، كما قال الشاعر:
لقد أحسن الله فيما مضى كذاك يحسن فيما بقي
، وإنما يقيس المستقبل على الماضي بواسطة الكرامة والحب؛ إذ يقول: لولا إني كريم عند الله، ومحبوب لما أحسن إلي، والتلبيس تحت ظنه أن كل محسن محب لا، بل تحت ظنه أن إنعامه عليه في الدنيا إحسان فقد اغتر بالله إذ ظن أنه كريم عند الله بدليل لا يدل على الكرامة، بل عند ذوي البصائر يدل على الهوان، ومثاله أن يكون للرجل عبدان صغيران يبغض أحدهما، ويحب الآخر، فالذي يحبه يمنعه من اللعب، ويلزمه المكتب، ويحبسه فيه ليعلمه الأدب، ويمنعه من الفواكه وملاذ الأطعمة التي تضره، ويسقيه الأدوية التي تنفعه، والذي يبغضه يهمله ليعيش كيف يريد فيلعب ولا يدخل المكتب، ويأكل كل ما يشتهي فيظن هذا العبد المهمل أنه عند سيده محبوب كريم; لأنه مكنه من شهواته ولذاته، وساعده على جميع أغراضه، فلم يمنعه ولم يحجر عليه; وذلك محض الغرور وهكذا نعيم الدنيا ولذاتها فإنها مهلكات، ومبعدات من الله . فإن الله يحمي عبده من الدنيا ، وهو يحبه كما يحمي أحدكم مريضه من الطعام والشراب، وهو يحبههكذا ورد في الخبر عن سيد البشر .
وكان أرباب البصائر إذا أقبلت عليهم الدنيا حزنوا ، وقالوا : ذنب عجلت عقوبته ، ورأوا ذلك علامة المقت والإهمال ، وإذا أقبل عليهم الفقر قالوا : . مرحبا بشعار الصالحين