فإن قلت : فما ذكرته من
nindex.php?page=treesubj&link=18879مداخل الغرور أمر لا يتخلص منه أحد ، ولا يمكن الاحتراز منه ، وهذا يوجب اليأس إذ لا يقوى أحد من البشر على الحذر من خفايا هذه الآفات . فأقول : الإنسان إذا افترقت همته في شيء أظهر اليأس منه ، واستعظم الأمر واستوعر الطريق وإذا صح منه الهوى اهتدى إلى الحيل ، واستنبط بدقيق النظر خفايا الطرق في الوصول إلى الغرض حتى إن الإنسان إذا أراد أن يستنزل الطير المحلق في جو السماء مع بعده منه استنزله وإذا أراد أن يخرج الحوت من أعماق البحر استخرجه وإذا أراد أن يستخرج الذهب أو الفضة من تحت الجبال استخرجه وإذا أراد أن يقنص الوحوش المطلقة في البراري والصحاري اقتنصها وإذا أراد أن يستسخر السباع والفيلة ، وعظيم الحيوانات استسخرها وإذا أراد أن يأخذ الحيات والأفاعي ويعبث بها أخذها واستخرج الترياق من أجوافها وإذا أراد أن يتخذ الديباج الملون المنقش من ورق التوت اتخذه وإذا أراد أن يعرف مقادير الكواكب وطولها وعرضها استخرج بدقيق الهندسة ذلك ، وهو مستقر على الأرض وكل ذلك باستنباط الحيل وإعداد الآلات فسخر الفرس للركوب والكلب للصيد وسخر البازي لاقتناص الطيور ، وهيأ الشبكة لاصطياد السمك إلى غير ذلك من دقائق حيل الآدمي .
كل ذلك ; لأن همه أمر دنياه ، وذلك معين له على دنياه ، فلو همه أمر آخرته ، فليس عليه إلا شغل واحد وهو تقويم قلبه فعجز عن تقويم قلبه وتخاذل ، وقال : هذا محال ومن الذي يقدر عليه وليس ذلك بمحال لو أصبح وهمه هذا الهم الواحد ، بل هو كما يقال :
لو صح منك الهوى أرشدت للحيل
فهذا شيء لم يعجز عنه السلف الصالحون ومن اتبعهم بإحسان .
فلا يعجز عنه أيضا من صدقت إرادته وقويت همته بل لا يحتاج إلى عشر تعب الخلق في استنباط حيل الدنيا ، ونظم أسبابها .
فَإِنْ قُلْتَ : فَمَا ذَكَرْتَهُ مِنْ
nindex.php?page=treesubj&link=18879مَدَاخِلِ الْغُرُورِ أَمْرٌ لَا يَتَخَلَّصُ مِنْهُ أَحَدٌ ، وَلَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ مِنْهُ ، وَهَذَا يُوجِبُ الْيَأْسَ إِذْ لَا يَقْوَى أَحَدٌ مِنَ الْبَشَرِ عَلَى الْحَذَرِ مِنْ خَفَايَا هَذِهِ الْآفَاتِ . فَأَقُولُ : الْإِنْسَانُ إِذَا افْتَرَقَتْ هِمَّتُهُ فِي شَيْءٍ أَظْهَرَ الْيَأْسَ مِنْهُ ، وَاسْتَعْظَمَ الْأَمْرَ وَاسْتَوْعَرَ الطَّرِيقَ وَإِذَا صَحَّ مِنْهُ الْهَوَى اهْتَدَى إِلَى الْحِيَلِ ، وَاسْتَنْبَطَ بِدَقِيقِ النَّظَرِ خَفَايَا الطُّرُقِ فِي الْوُصُولِ إِلَى الْغَرَضِ حَتَّى إِنَّ الْإِنْسَانَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَنْزِلَ الطَّيْرَ الْمُحَلِّقَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَعَ بُعْدِهِ مِنْهُ اسْتَنْزَلَهُ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَ الْحُوتَ مِنْ أَعْمَاقِ الْبَحْرِ اسْتَخْرَجَهُ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَخْرِجَ الذَّهَبَ أَوِ الْفِضَّةَ مِنْ تَحْتِ الْجِبَالِ اسْتَخْرَجَهُ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَقْنِصُ الْوُحُوشَ الْمُطْلَقَةَ فِي الْبَرَارِيِّ وَالصَّحَارِي اقْتَنَصَهَا وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَسْتَسْخِرَ السِّبَاعَ وَالْفِيَلَةَ ، وَعَظِيمَ الْحَيَوَانَاتِ اسْتَسْخَرَهَا وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَأْخُذَ الْحَيَّاتِ وَالْأَفَاعِيَ وَيَعْبَثَ بِهَا أَخَذَهَا وَاسْتَخْرَجَ التِّرْيَاقَ مِنْ أَجْوَافِهَا وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَتَّخِذَ الدِّيبَاجَ الْمُلَوَّنَ الْمُنَقَّشَ مِنْ وَرَقِ التُّوتِ اتَّخَذَهُ وَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَعْرِفَ مَقَادِيرَ الْكَوَاكِبِ وَطُولَهَا وَعَرْضَهَا اسْتَخْرَجَ بِدَقِيقِ الْهَنْدَسَةِ ذَلِكَ ، وَهُوَ مُسْتَقِرٌّ عَلَى الْأَرْضِ وَكُلُّ ذَلِكَ بِاسْتِنْبَاطِ الْحِيَلِ وَإِعْدَادِ الْآلَاتِ فَسَخَّرَ الْفَرَسَ لِلرُّكُوبِ وَالْكَلْبَ لِلصَّيْدِ وَسَخَّرَ الْبَازِيَ لِاقْتِنَاصِ الطُّيُورِ ، وَهَيَّأَ الشَّبَكَةَ لِاصْطِيَادِ السَّمَكِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ دَقَائِقِ حِيَلِ الْآدَمِيِّ .
كُلُّ ذَلِكَ ; لِأَنَّ هَمَّهُ أَمْرُ دُنْيَاهُ ، وَذَلِكَ مُعِينٌ لَهُ عَلَى دُنْيَاهُ ، فَلَوْ هَمَّهُ أَمْرُ آخِرَتِهِ ، فَلَيْسَ عَلَيْهِ إِلَّا شُغْلٌ وَاحِدٌ وَهُوَ تَقْوِيمُ قَلْبِهِ فَعَجَزَ عَنْ تَقْوِيمِ قَلْبِهِ وَتَخَاذَلَ ، وَقَالَ : هَذَا مُحَالٌ وَمَنَ الَّذِي يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمُحَالٍ لَوْ أَصْبَحَ وَهَمُّهُ هَذَا الْهَمُّ الْوَاحِدُ ، بَلْ هُوَ كَمَا يُقَالُ :
لَوْ صَحَّ مِنْكَ الْهَوَى أُرْشِدْتَ لِلْحِيَلِ
فَهَذَا شَيْءٌ لَمْ يَعْجِزْ عَنْهُ السَّلَفُ الصَّالِحُونَ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ .
فَلَا يَعْجِزُ عَنْهُ أَيْضًا مَنْ صَدَقَتْ إِرَادَتُهُ وَقَوِيَتْ هِمَّتُهُ بَلْ لَا يَحْتَاجُ إِلَى عُشْرِ تَعَبِ الْخَلْقِ فِي اسْتِنْبَاطِ حِيَلِ الدُّنْيَا ، وَنَظْمِ أَسْبَابِهَا .