بيان وفضلها . وجوب التوبة
اعلم أن وجوب التوبة ظاهر بالأخبار والآيات ، وهو واضح بنور البصيرة عند من انفتحت بصيرته ، وشرح الله بنور الإيمان صدره حتى اقتدرت على أن يسعى بنوره الذي بين يديه في ظلمات الجهل مستغنيا عن قائد يقوده في كل خطوة ، فالسالك إما أعمى لا يستغني عن القائد في خطوه وإما بصير يهدي إلى أول الطريق ثم يهتدي بنفسه وكذلك الناس في طريق الدين ينقسمون هذا الانقسام ، فمن قاصر لا يقدر على مجاوزة التقليد في خطوه فيفتقر إلى أن يسمع في كل قدم نصا من كتاب الله أو سنة رسوله ، وربما يعوزه ذلك فيتحير فسير هذا وإن طال عمره وعظم جده مختصر ، وخطاه قاصرة ، ومن سعيد شرح الله صدره للإسلام فهو على نور من ربه فيتنبه بأدنى إشارة لسلوك طريق معوصة وقطع عقبات متعبة ويشرق في قلبه نور القرآن ونور الإيمان وهو ، لشدة نور باطنه يجتزئ بأدنى بيان فكأنه يكاد زيته يضيء ، ولو لم تمسسه نار فإذا ، مسته نار فهو نور على نور ، يهدي الله لنوره من يشاء وهذا لا يحتاج إلى نص منقول في كل واقعة ، فمن هذا حاله إذا أراد أن يعرف وجوب التوبة فينظر أولا بنور البصيرة إلى التوبة ما هي ، ثم إلى الوجوب ما معناه ، ثم يجمع بين معنى الوجوب والتوبة ، فلا يشك في ثبوته لها ، وذلك بأن يعلم بأن معنى الواجب ما هو واجب في الوصول إلى سعادة الأبد والنجاة من هلاك الأبد فإنه لولا تعلق السعادة والشقاوة بفعل الشيء وتركه لم يكن لوصفه بكونه واجبا معنى وقول القائل صار واجبا بالإيجاب حديث محض فإن ما لا غرض لنا آجلا وعاجلا في فعله وتركه فلا معنى لاشتغالنا به ، أوجبه علينا غيرنا أو لم يوجبه ، فإذا عرف معنى الوجوب وأنه الوسيلة إلى سعادة الأبد وعلم أن ، لا سعادة في دار البقاء إلا في لقاء الله تعالى وأن ، كل محجوب عنه يشقى لا محالة محول بينه وبين ما يشتهي محترق بنار الفراق ونار الجحيم وعلم أنه لا مبعد عن لقاء الله إلا اتباع الشهوات والأنس بهذا العالم الفاني والإكباب ، على حب ما لا بد من فراقه قطعا ، وعلم أنه لا مقرب من لقاء الله إلا قطع علاقة القلب عن زخرف هذا العالم والإقبال بالكلية على الله طلبا للأنس به بدوام ذكره وللمحبة له بمعرفة جلاله وجماله على قدر طاقته وعلم أن الذنوب التي هي إعراض عن الله واتباع ، لمحاب الشياطين أعداء الله المبعدين عن حضرته سبب كونه محجوبا مبعدا عن الله تعالى فلا يشك في أن الانصراف عن طريق البعد واجب للوصول إلى القرب ، وإنما يتم الانصراف بالعلم والندم والعزم ; فإنه ما لم يعلم أن الذنوب أسباب البعد عن المحبوب لم يندم ولم يتوجع بسبب سلوكه في طريق البعد ، وما لم يتوجع فلا يرجع ومعنى الرجوع الترك والعزم ، فلا يشك في أن المعاني الثلاثة ضرورية في الوصول إلى المحبوب وهكذا ، يكون الإيمان الحاصل عن نور البصيرة ، وأما من لم يترشح لمثل هذا المقام المرتفع ذروته عن حدود أكثر الخلق ففي التقليد والاتباع له مجال رحب يتوصل به إلى النجاة من الهلاك فليلاحظ فيه قول الله وقول رسوله ، وقول السلف الصالحين فقد قال الله تعالى وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون ، وهذا أمر على العموم وقال الله تعالى يا أيها الذين آمنوا توبوا إلى الله توبة نصوحا الآية ومعنى النصوح الخالص لله تعالى خاليا عن الشوائب مأخوذ من النصح ويدل على قوله تعالى : فضل التوبة إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين وقال عليه السلام : « التائب حبيب الله والتائب من الذنب كمن لا ذنب له وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لله أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من رجل نزل في أرض دوية مهلكة معه راحلته عليها طعامه وشرابه ، فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته فطلبها حتى إذا اشتد عليه الحر ، والعطش ، أو ما شاء الله ، قال أرجع إلى مكاني الذي كنت فيه فأنام حتى أموت ، فوضع رأسه على ساعده ليموت فاستيقظ ، فإذا راحلته عنده عليها زاده وشرابه ، فالله تعالى أشد فرحا بتوبة العبد المؤمن من هذا براحلته وفي بعض الألفاظ قال من شدة فرحه إذ أراد شكر الله : أنا ربك ، وأنت عبدي ويروى عن الحسن قال : لما تاب الله عز وجل على آدم عليه السلام هنأته الملائكة وهبط عليه جبريل وميكائيل عليهما السلام فقالا : يا آدم قرت عينك بتوبة الله عليك فقال آدم عليه السلام : يا جبريل فإن كان بعد هذه التوبة سؤال فأين مقامي ، فأوحى الله إليه يا آدم ، ورثت ذويك التعب والنصب ، وورثتهم التوبة ، فمن دعاني منهم لبيته كما لبيتك ومن سألني المغفرة لم أبخل عليه لأني قريب مجيب يا آدم ، وأحشر التائبين من القبور مستبشرين ضاحكين ، ودعاؤهم مستجاب .