بل نقول : أن يكون كثير الفكر في النعيم في الآخرة لتزيد رغبته ولكن إن كان شابا فلا ينبغي أن يطيل فكره في كل ما له نظير في الدنيا كالحور والقصور ، فإن ذلك الفكر ربما يحرك رغبته فيطلب العاجلة ولا يرضى بالآجلة بل ينبغي أن يتفكر في لذة النظر إلى وجه الله تعالى فقط ، فذلك لا نظير له في الدنيا . شرط دوام التوبة
فكذلك تذكر الذنب قد يكون محركا للشهوة فالمبتدئ ، أيضا قد يستضر به ، فيكون النسيان أفضل له عند ذلك ولا يصدنك عن التصديق بهذا التحقيق ما يحكى لك من بكاء داود ونياحته عليه السلام فإن قياسك نفسك على الأنبياء قياس في غاية الاعوجاج ; لأنهم قد ينزلون في أقوالهم وأفعالهم إلى الدرجات اللائقة بأممهم ; فإنهم ما بعثوا إلا لإرشادهم فعليهم التلبس بما تنتفع أممهم بمشاهدته ، وإن كان ذلك نازلا عن ذروة مقامهم فلقد كان في الشيوخ من لا يشير على مريده بنوع رياضة إلا ويخوض معه فيها ، وقد كان مستغنيا عنها ، لفراغه عن المجاهدة وتأديب النفس تسهيلا للأمر على المريد ; ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : أما إني لا أنسى ولكني ، أنسى لأشرع وفي لفظ : إنما أسهو لأسن ، ولا تعجب من هذا ; فإن الأمم في كنف شفقة الأنبياء كالصبيان في كنف شفقة الآباء ، وكالمواشي في كنف الرعاة .
أما ترى الأب إذا أراد أن يستنطق ولده الصبي كيف ينزل إلى درجة نطق الصبي ، كما قال صلى الله عليه وسلم : للحسن كخ كخ لما أخذ تمرة من تمر الصدقة ووضعها في فيه وما كانت فصاحته تقصر عن أن يقول : ارم هذه التمرة فإنها حرام ، ولكنه لما علم أنه لا يفهم منطقه ترك الفصاحة ، ونزل إلى لكنته بل الذي يعلم شاة أو طائرا يصوت به رغاء أو صفيرا تشبها بالبهيمة والطائر تلطفا في تعليمه فإياك أن تغفل عن أمثال هذه الدقائق إنها مزلة أقدام العارفين ، فضلا عن الغافلين نسأل الله حسن التوفيق بلطفه وكرمه .
.