الطبقة الثالثة: أن يتوب ويستمر على الاستقامة مدة ، ثم تغلبه الشهوات في بعض الذنوب فيقدم عليها عن صدق وقصد شهوة لعجزه عن قهر الشهوة ، إلا أنه مع ذلك مواظب على الطاعات ، وتارك جملة من الذنوب مع القدرة والشهوة ، وإنما قهرته هذه الشهوة الواحدة أو الشهوتان ، وهو يود لو أقدره الله تعالى على قمعها وكفاه شرها هذا ، أمنيته في حال قضاء الشهوة عند الفراغ يتندم ويقول : ليتني لم أفعله ، وسأتوب عنه ، وأجاهد نفسي في قهرها ، لكنه تسول نفسه ويسوف توبته مرة بعد أخرى ، ويوما بعد يوم وصاحبها من الذين قال الله تعالى فيهم : فهذه النفس هي التي تسمى النفس المسولة وآخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا فأمره من حيث مواظبته على الطاعات وكراهته لما تعاطاه مرجو فعسى الله أن يتوب عليه وعاقبته مخطرة من حيث تسويفه وتأخيره فربما يختطف قبل التوبة ، ويقع أمره في المشيئة فإن تداركه الله بفضله وجبر كسره وامتن عليه بالتوبة التحق بالسابقين وإن غلبته شقوته وقهرته شهوته فيخشى أن يحق عليه في الخاتمة ما سبق عليه من القول في الأزل لأنه مهما تعذر على المتفقه مثلا الاحتراز عن شواغل التعلم دل تعذره على أنه سبق له في الأزل أن يكون من الجاهلين فيضعف الرجاء في حقه ، وإذا يسرت له أسباب المواظبة على التحصيل دل على أنه سبق له في الأزل أن يكون من جملة العالمين ، فكذلك ارتباط درجات الآخرة ودركاتها بالحسنات والسيئات بحكم تقدير مسبب الأسباب كارتباط المرض والصحة بتناول الأغذية والأدوية ، وارتباط حصول فقه النفس الذي به تستحق المناصب العلية في الدنيا بترك الكسل ، والمواظبة على تفقيه النفس فكما لا يصلح لمنصب الرياسة والقضاء والتقدم بالعلم إلا نفس صارت فقيهة بطول التفقيه ، فلا يصلح لملك الآخرة ونعيمها ولا القرب من رب العالمين إلا قلب سليم صار طاهرا بطول التزكية والتطهير هكذا سبق في الأزل بتدبير رب الأرباب ، ولذلك قال تعالى : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها فمهما وقع العبد في ذنب فصار الذنب نقدا والتوبة نسيئة كان هذا من علامات الخذلان قال صلى الله عليه وسلم : إن العبد ليعمل بعمل أهل الجنة سبعين سنة ، حتى يقول الناس إنه من أهلها ، ولا يبقى بينه وبين الجنة إلا شبر فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها فإذن الخوف من الخاتمة قبل التوبة ، وكل نفس فهو خاتمة ما قبله ; إذ يمكن أن يكون الموت متصلا به فليراقب الأنفاس وإلا وقع في المحذور ودامت الحسرات حين لا ينفع التحسر .