فإن قلت : أينفع كل علم لحل الإصرار أم لا بد من علم مخصوص فاعلم أن ولكن لكل مرض علم يخصه ، كما أن علم الطب نافع في علاج الأمراض بالجملة ، ولكن يخص كل علة علم مخصوص فكذلك دواء الإصرار ، فلنذكر خصوص ذلك العلم على موازنة مرض الأبدان ; ليكون أقرب إلى الفهم ، فنقول : يحتاج المريض إلى التصديق بأمور الأول أن يصدق على الجملة بأن للمرض والصحة أسبابا يتوصل إليها بالاختيار على ما رتبه مسبب الأسباب وهذا هو الإيمان بأصل الطب ; فإن من لا يؤمن به لا يشتغل بالعلاج ويحق عليه الهلاك وهذا وزانه مما نحن فيه الإيمان بأصل الشرع ، وهو أن للسعادة في الآخرة سببا هو الطاعة ، وللشقاوة سببا هو المعصية ، وهذا هو الإيمان بأصل الشرائع ، وهذا لا بد من حصوله ، إما عن تحقيق أو تقليد ، وكلاهما من جملة الإيمان . العلوم بجملتها أدوية لأمراض القلوب ،
الثاني أنه لا بد أن يعتقد المريض في طبيب معين أنه عالم بالطب حاذق فيه صادق فيما يعبر عنه لا يلبس ولا يكذب فإن إيمانه بأصل الطب لا ينفعه بمجرده دون هذا الإيمان ، ووزانه مما نحن فيه العلم بصدق الرسول صلى الله عليه وسلم ، والإيمان بأن كل ما يقوله حق وصدق ، لا كذب فيه ولا خلف .
الثالث : أنه لا بد أن يصغي إلى الطبيب فيما يحذره عنه من تناول الفواكه والأسباب المضرة على الجملة حتى يغلب عليه الخوف في ترك الاحتماء فتكون شدة الخوف باعثة له على الاحتماء ووزانه من الدين الإصغاء إلى الآيات والأخبار المشتملة على الترغيب في التقوى والتحذير من ارتكاب الذنوب ، واتباع الهوى ، والتصديق بجميع ما يلقى إلى سمعه من ذلك من غير شك واسترابة حتى ينبعث به الخوف المقوي على الصبر الذي هو الركن الآخر في العلاج .
الرابع : أن يصغي إلى الطبيب فيما يخص مرضه ، وفيما يلزمه في نفسه الاحتماء عنه ; ليعرفه أولا تفصيل ما يضره من أفعاله وأحواله ، ومأكوله ، ومشروبه ، فليس على كل مريض الاحتماء عن كل شيء ، ولا ينفعه كل دواء ، بل لكل علة خاصة علم خاص ، وعلاج خاص ، ووزانه من الدين أن كل عبد فليس يبتلى بكل شهوة ، وارتكاب ذنب ، بل لكل مؤمن ذنب مخصوص ، أو ذنوب مخصوصة ، وإنما حاجته في الحال مرهقة إلى العلم بأنها ذنوب ، ثم إلى العلم بآفاتها وقدر ضررها ، ثم العلم بكيفية التوصل إلى الصبر عنها ، ثم إلى العلم بكيفية تكفير ما سبق منها .
فهذه علوم يختص بها أطباء الدين ، وهم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء فالعاصي إن علم عصيانه ، فعليه طلب العلاج من الطبيب ، وهو العالم وإن كان لا يدري أن ما يرتكبه ذنب ، فعلى العالم أن يعرفه ذلك وذلك بأن يتكفل كل عالم بإقليم أو بلدة ، أو محلة ، أو مسجد أو مشهد فيعلم أهله دينهم ويميز ما يضرهم عما ينفعهم وما يشقيهم عما يسعدهم ، ولا ينبغي أن يصبر إلى أن يسأل عنه ، بل ينبغي أن يتصدى لدعوة الناس إلى نفسه فإنهم ورثة الأنبياء والأنبياء ما تركوا الناس على جهلهم ، بل كانوا ينادونهم في مجامعهم ويدورون على أبواب دورهم في الابتداء ، ويطلبون واحدا واحدا فيرشدونهم فإن مرضى القلوب لا يعرفون مرضهم كما أن الذي ظهر على وجهه برص ولا مرآة معه لا ، يعرف برصه ما لم يعرفه غيره ، وهذا فرض عين على العلماء كافة ، وعلى السلاطين كافة أن يرتبوا في كل قرية ، وفي كل محلة فقيها متدينا يعلم الناس دينهم ; فإن الخلق لا يولدون إلا جهالا فلا بد من تبليغ الدعوة إليهم في الأصل والفرع ، والدنيا دار المرضى ; إذ ليس في بطن الأرض إلا ميت ، ولا على ظهرها إلا سقيم ومرض ، القلوب أكثر من مرض الأبدان ، والعلماء أطباء والسلاطين قوام دار المرضى ، فكل مريض لم يقبل العلاج بمداواة العالم ، يسلم إلى السلطان ليكف شره ، كما يسلم الطبيب المريض الذي لا يحتمي أو الذي غلب عليه الجنون إلى القيم ليقيده بالسلاسل والأغلال ويكف شره عن نفسه وعن سائر الناس .
وإنما صار لثلاث علل : إحداها أن المريض به لا يدري أنه مريض . مرض القلوب أكثر من مرض الأبدان ;
والثانية أن عاقبته غير مشاهدة في هذا العالم بخلاف مرض البدن فإن عاقبته موت مشاهد تنفر الطباع منه ، وما بعد الموت غير مشاهد ، وعاقبة الذنوب موت القلب وهو غير مشاهد في هذا العالم ، فقلت : النفرة عن الذنوب ، وإن علمها مرتكبها فلذلك تراه يتكل على فضل الله في مرض القلب ، ويجتهد في علاج مرض البدن من غير اتكال .
والثالثة وهو الداء العضال فقد الطبيب ; فإن الأطباء هم العلماء ، وقد مرضوا في هذه الأعصار مرضا شديدا عجزوا عن علاجه ، وصارت لهم سلوة في عموم المرض حتى لا يظهر نقصانهم ، فاضطروا إلى إغواء الخلق والإشارة عليهم بما يزيدهم مرضا ; لأن الداء المهلك هو وقد غلب هذا الداء على الأطباء فلم يقدروا على تحذير الخلق منه استنكافا من أن يقال لهم ، فما بالكم تأمرون بالعلاج وتنسون أنفسكم فبهذا السبب عم على الخلق الداء ، وعظم الوباء وانقطع الدواء وهلك الخلق لفقد الأطباء ، بل اشتغل الأطباء بفنون الإغواء فليتهم إذ لم ينصحوا لم يغشوا وإذا ، لم يصلحوا لم يفسدوا ، وليتهم سكتوا وما نطقوا ; فإنهم إذا تكلموا لم يهمهم في مواعظهم إلا ما يرغب العوام ويستميل قلوبهم ولا يتوصلون إلى ذلك إلا بالإرجاء ، وتغليب أسباب الرجاء وذكر دلائل الرحمة لأن ذلك ألذ في الأسماع ، وأخف على الطباع فتنصرف الخلق عن مجالس الوعظ وقد استفادوا مزيد جراءة على المعاصي ، ومزيد ثقة بفضل الله ومهما كان الطبيب جاهلا ، أو خائبا أهلك بالدواء حيث يضعه في غير موضعه ; حب الدنيا ولكن لشخصين متضادي العلة ; أما الذي غلب عليه الخوف حتى هجر الدنيا بالكلية ، وكلف نفسه ما لا تطيق وضيق العيش على نفسه بالكلية فتكسر سورة إسرافه في الخوف بذكر أسباب الرجاء ليعود إلى الاعتدال وكذلك المصر على الذنوب المشتهي للتوبة الممتنع عنها بحكم القنوط واليأس استعظاما لذنوبه التي سبقت يعالج أيضا بأسباب الرجاء حتى يطمع في قبول التوبة فيتوب ، فأما معالجة المغرور المسترسل في المعاصي بذكر أسباب الرجاء ، فيضاهي معالجة المحرور بالعسل طلبا للشفاء وذلك من دأب الجهال والأغبياء فإذن فساد الأطباء هي المعضلة الزباء التي لا تقبل الدواء أصلا . فالرجاء والخوف دواءان ،
فإن قلت : فاذكر الطريق فاعلم أن ذلك يطول ولا يمكن استقصاؤه ، نعم نشير إلى الأنواع النافعة في حل عقدة الإصرار ، وحمل الناس على ترك الذنوب ، وهي أربعة أنواع : الذي ينبغي أن يسلكه الواعظ في طريق الوعظ مع الخلق
الأول أن يذكر ما في القرآن من الآيات المخوفة للمذنبين والعاصين وكذلك ما ورد من الأخبار والآثار .
مثل قوله صلى الله عليه وسلم : ما من يوم طلع فجره ، ولا ليلة غاب شفقها إلا وملكان يتجاوبان بأربعة أصوات يقول أحدهما : يا ليت هذا الخلق لم يخلقوا ، ويقول الآخر : يا ليتهم إذ خلقوا علموا لماذا خلقوا ? فيقول الآخر يا : ليتهم إذ علموا لماذا خلقوا عملوا بما علموا ، وفي بعض الروايات : ليتهم تجالسوا فتذكروا ما علموا ، ويقول الآخر : يا ليتهم إذ لم يعلموا بما يعملوا تابوا مما عملوا .