فإذن الخفية وتوسم الأحوال اللائقة ليكون اشتغاله بالمهم فإن حكاية جميع مواعظ الشرع مع كل واحد غير ممكنة ، والاشتغال بوعظه بما هو مستغن عن الوعظ فيه تضييع زمان . على كل ناصح أن تكون عنايته مصروفة إلى تفرس الصفات
فإن قلت : فإن كان الواعظ يتكلم في جمع أو سأله من لا يدري باطن حاله أن يعظه ، فكيف يفعل ? فاعلم أن طريقه في ذلك أن يعظه بما يشترك كافة الخلق في الحاجة إليه ، إما على العموم وإلا على الأكثر ، فإن في علوم الشرع أغذية وأدوية ، فالأغذية للكافة والأدوية لأرباب العلل .
ومثاله ما روي أن رجلا قال : أوصني . قال : عليك بتقوى الله عز وجل ، فإنها رأس كل خير ، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام ، وعليك بالقرآن فإنه نور لك في أهل الأرض وذكر لك في أهل السماء ، وعليك بالصمت إلا من خير فإنك بذلك تغلب الشيطان وقال رجل للحسن أوصني . فقال : أعز أمر الله يعزك الله وقال لأبي سعيد الخدري لقمان لابنه : يا بني زاحم العلماء بركبتيك ، ولا تجادلهم فيمقتوك وخذ من الدنيا بلاغك وأنفق فضول كسبك لآخرتك ولا ترفض الدنيا كل الرفض فتكون عيالا وعلى أعناق الرجال كلا وصم صوما يكسر شهوتك ، ولا تصم صوما يضر بصلاتك ; فإن الصلاة أفضل من الصوم ، ولا تجالس السفيه ، ولا تخالط ذا الوجهين وقال أيضا لابنه : يا بني لا تضحك من غير عجب ، ولا تمش في غير أرب ، ولا تسأل عما لا يعنيك ولا تضيع مالك ، وتصلح مال غيرك ; فإن مالك ما قدمت ، ومال غيرك ما تركت يا بني إن من يرحم يرحم ومن يصمت يسلم ومن يقل الخير يغنم ، ومن يقل الشر يأثم ، ومن لا يملك لسانه يندم وقال رجل لأبي حازم: أوصني فقال كل ما لو جاءك الموت عليه فرأيته غنيمة فالزمه وكل ما لو جاءك الموت عليه فرأيته مصيبة فاجتنبه وقال موسى للخضر عليهما السلام أوصني فقال : كن بساما ، ولا تكن غضابا ، وكن نفاعا ، ولا تكن ضرارا ، وانزع عن اللجاجة ، ولا تمش في غير حاجة ، ولا تضحك من غير عجب ، ولا تعير الخطائين بخطاياهم ، وابك على خطيئتك يا ابن عمران وقال رجل لمحمد بن كرام أوصني فقال : اجتهد في رضا خالقك بقدر ما تجتهد في رضا نفسك .
وقال رجل لحامد اللفاف أوصني فقال : اجعل لدينك غلافا كغلاف المصحف أن تدنسه الآفات قال : وما غلاف الدين ، قال : ترك طلب الدنيا إلا ما لا بد منه وترك كثرة الكلام إلا فيما لا بد منه ، وترك مخالطة الناس إلا فيما لا بد منه ، وكتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز رحمهم الله تعالى : أما بعد فخف مما خوفك الله ، واحذر مما حذرك الله ، وخذ مما في يديك لما بين يديك ، فعند الموت يأتيك الخبر اليقين ، والسلام . وكتب إلى الحسن يسأل أن يعظه ، فكتب إليه : أما بعد ، فإن الهول الأعظم والأمور المفظعات أمامك ، ولا بد لك من مشاهدة ذلك ; إما بالنجاة ، وإما بالعطب واعلم أن من حاسب نفسه ربح ، ومن غفل عنها خسر ، ومن نظر في العواقب نجا ، ومن أطاع هواه ضل ، ومن حلم غنم ، ومن خاف أمن ، ومن أمن اعتبر ، ومن اعتبر أبصر ، ومن أبصر فهم ، ومن فهم علم ، فإذا زللت فارجع وإذا ندمت فأقلع وإذا جهلت فاسأل وإذا غضبت فأمسك وكتب مطرف بن عبد الله إلى عمر بن عبد العزيز رحمه الله : أما بعد ، فإن الدنيا دار عقوبة ، ولها يجمع من من لا عقل له ، وبها يغتر من لا علم عنده ، فكن فيها يا أمير المؤمنين كالمداوي جرحه ، يصبر على شدة الدواء لما يخاف من عاقبة الداء وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه إلى عدي بن أرطاة أما بعد ، فإن الدنيا عدوة أولياء الله ، وعدوة أعداء الله فأما ; أولياؤه فغمتهم ، وأما أعداؤه فغرتهم وكتب أيضا إلى بعض عماله : أما بعد فقد أمكنتك القدرة من ظلم العباد فإذا هممت بظلم أحد فاذكر قدرة الله عليك ، واعلم أنك لا تأتي إلى الناس شيئا إلا كان زائلا عنهم باقيا عليك ، واعلم إن الله عز وجل آخذ للمظلومين من الظالمين ، والسلام . عمر بن عبد العزيز
فهكذا ينبغي أن يكون وعظ العامة ووعظ من لا يدري خصوص واقعته ، فهذه . المواعظ مثل الأغذية التي يشترك الكافة في الانتفاع بها
ولأجل فقد مثل هؤلاء الوعاظ انحسم باب الاتعاظ وغلبت المعاصي ، واستسرى الفساد ، وبلي الخلق بوعاظ يزخرفون أسجاعا وينشدون أبياتا ، ويتكلفون ذكر ما ليس في سعة علمهم ، ويتشبهون بحال غيرهم ، فسقط عن قلوب العامة وقارهم ولم يكن كلامهم صادرا من القلب ليصل إلى القلب بل القائل متصلف والمستمع متكلف ، وكل واحد منهما مدبر ومتخلف .
فإذن كان طلب الطبيب أول علاج المرضى ، فهذا أحد أركان العلاج وأصوله . وطلب العلماء أول علاج العاصين