وأما المعنى الرابع ، وهو ما سبق وهو كمن ينفق جميع أمواله ويترك نفسه وعياله فقراء منتظرا من فضل الله تعالى أن يرزقه العثور على كنز في أرض خربة فإن إمكان العفو عن الذنب مثل هذا الإمكان وهو مثل من يتوقع النهب من الظلمة في بلده ، وترك ذخائر أمواله في صحن داره ، وقدر على دفنها وإخفائها فلم يفعل ، وقال : أنتظر من فضل الله تعالى أن يسلط غفلة أو عقوبة على الظالم الناهب حتى لا يتفرغ إلى داري أو إذا انتهى إلى داري مات على باب الدار فإن الموت ممكن ، والغفلة ممكنة . وقد حكي في الأسمار أن مثل ذلك وقع فأنا أنتظر من فضل الله مثله ، فمنتظر هذا منتظر أمر ممكن ، ولكنه في غاية الحماقة والجهل إذ قد لا يمكن ، ولا يكون . انتظار عفو الله تعالى فعلاجه
وأما الخامس : وهو شك فهذا كفر وعلاجه الأسباب التي تعرفه صدق الرسل ، وذلك يطول ولكن يمكن أن يعالج بعلم قريب يليق بحد عقله فيقال له ما قاله الأنبياء المؤيدون بالمعجزات هل صدقه ممكن ، أو تقول : أعلم أنه محال ، كما أعلم استحالة شخص واحد في مكانين في حالة واحدة ; فإن قال : أعلم استحالته كذلك فهو أخرق معتوه وكأنه لا وجود لمثل هذا في العقلاء . وإن قال : أنا شاك فيه فيقال : لو أخبرك شخص واحد مجهول عند تركك طعامك في البيت لحظة أنه ولغت فيه حية ، وألقت سمها فيه ، وجوزت صدقه ، فهل تأكله أو تتركه ، وإن كان ألذ الأطعمة ، فيقول : أتركه لا محالة لأني أقول : إن كذب فلا يفوتني إلا هذا الطعام والصبر عنه ، وإن كان شديدا فهو قريب ، وإن صدق فتفوتني الحياة والموت بالإضافة إلى ألم الصبر عن الطعام وإضاعته شديد فيقال له : يا سبحان الله ، كيف تؤخر صدق الأنبياء كلهم مع ما ظهر لهم من المعجزات وصدق كافة الأولياء والعلماء والحكماء ، بل جميع أصناف العقلاء ولست أعني بهم جهال العوام ، بل ذوي الألباب عن صدق رجل واحد مجهول لعل له غرضا فيما يقول ، فليس في العقلاء إلا من صدق باليوم الآخر، وأثبت ، ثوابا وعقابا وإن اختلفوا في كيفيته ، فإن صدقوا فقد أشرفت على عذاب يبقى أبد الآباد ، وإن كذبوا فلا يفوتك إلا بعض شهوات هذه الدنيا الفانية المكدرة ، فلا يبقى له توقف إن كان عاقلا مع هذا الفكر ، إذ لا نسبة لمدة العمر إلى أبد الآباد ، بل لو قدرنا الدنيا مملوءة بالذرة وقدرنا طائرا يلتقط في كل ألف ألف سنة حبة واحدة منها لفنيت الذرة ، ولم ينقص أبد الآباد شيء ، فكيف يفتر رأي العاقل في الصبر عن الشهوات مائة سنة مثلا لأجل سعادة تبقى أبد الآباد; ولذلك قال أبو العلاء أحمد بن سليمان التنوخي المعري .
قال المنجم والطبيب كلاهما لا تبعث الأموات قلت إليكما إن صح قولكما فلست بخاسر
أو صح قولي فالخسار عليكما
فإن قلت : هذه الأمور جلية ، ولكنها ليست تنال إلا بالفكر ، فما بال القلوب هجرت الفكر فيها واستثقلته ، وما لا سيما من آمن بأصل الشرع وتفصيله ؟ فاعلم أن المانع من الفكر أمران : أحدهما أن الفكر النافع هو الفكر في عقاب الآخرة وأهوالها وشدائدها وحسرات العاصين في الحرمان عن النعيم المقيم ، وهذا فكر لداغ مؤلم للقلب فينفر القلب عنه ، ويتلذذ بالفكر في أمور الدنيا على سبيل التفرج والاستراحة ، والثاني أن الفكر شغل في الحال مانع من لذائذ الدنيا ، وقضاء الشهوات ، وما من إنسان إلا وله في كل حالة من أحواله ونفس من أنفاسه شهوة قد تسلطت عليه ، واسترقته فصار عقله مسخرا لشهوته فهو مشغول بتدبير حيلته ، وصارت لذته في طلب الحيلة فيه ، أو في مباشرة قضاء الشهوة ، والفكر يمنعه من ذلك . علاج القلوب لردها إلى الفكر