فصده عنه . والزهد في الدنيا لما أن كان ملكا حاضرا حسده الشيطان عليه
أن يملك العبد شهوته وغضبه ، فينقادان لباعث الدين وإشارة الإيمان وهذا ملك بالاستحقاق إذ به يصير صاحبه حرا وباستيلاء الشهوة عليه يصير عبدا لفرجه وبطنه وسائر أغراضه فيكون مسخرا مثل البهيمة مملوكا يستجره زمام الشهوة آخذا بمختنقه : إلى حيث يريد ويهوى ، فما أعظم اغترار الإنسان إذ ظن أنه ينال الملك بأنه يصير مملوكا ، وينال الربوبية بأن يصير عبدا ، ومثل هذا هل يكون إلا معكوسا في الدنيا منكوسا في الآخرة ولهذا قال بعض الملوك لبعض الزهاد : هل من حاجة قال : كيف أطلب منك حاجة ، وملكي أعظم من ملكك فقال ! : كيف ؟ قال : من أنت عبده فهو عبد لي ، فقال : كيف ذلك ؟ قال : أنت عبد شهوتك وغضبك وفرجك وبطنك ، وقد ملكت هؤلاء كلهم فهم عبيد لي . فهذا إذا هو الملك في الدنيا ، وهو الذي يسوق إلى الملك في الآخرة ، فالمخدوعون بغرور الشيطان خسروا الدنيا والآخرة جميعا ، والذين وفقوا للاشتداد على الصراط المستقيم فازوا بالدنيا والآخرة جميعا . ومعنى الزهد
فإذا عرفت الآن معنى الملك والربوبية ، ومعنى التسخير والعبودية ، ومدخل الغلط في ذلك وكيفية ، تعمية الشيطان وتلبيسه يسهل عليك النزوع عن الملك والجاه والإعراض عنه ، والصبر عند فواته إذ تصير بتركه ملكا في الحال ، وترجو به ملكا في الآخرة .
ومن كوشف بهذه الأمور بعد أن ألف الجاه وأنس به ورسخت فيه بالعادة مباشرة أسبابه فلا يكفيه في العلاج مجرد العلم والكشف ، بل لا بد وأن يضيف إليه العمل ، وعمله في ثلاثة أمور : أحدها أن يهرب عن موضع الجاه كي لا يشاهد أسبابه فيعسر عليه الصبر مع الأسباب ، كما يهرب من غلبته الشهوة من مشاهدة الصور المحركة ، ومن لم يفعل هذا فقد كفر نعمة الله في سعة الأرض ، إذ قال تعالى ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها . الثاني : أن يكلف نفسه في أعماله أفعالا تخالف ما اعتاده ، فيبدل التكلف بالتبذل وزي الحشمة بزي التواضع ، وكذلك كل هيئة وحال وفعل في مسكن وملبس ومطعم وقيام وقعود كان يعتاده وفاء بمقتضى جاهه ، فينبغي أن يبدلها بنقائضها حتى يرسخ باعتياد ذلك ضد ما رسخ فيه من قبل باعتياد ضده ، فلا معنى للمعالجة إلا المضادة . الثالث : أن يراعى في ذلك التلطف والتدريج ، فلا ينتقل دفعة واحدة إلى الطرف الأقصى من التبذل فإن الطبع نفور ، ولا يمكن نقله عن أخلاقه إلا بالتدريج ، فيترك البعض ويسلي نفسه بالبعض ، ثم إذا قنعت نفسه بذلك البعض ابتدأ بترك البعض من ذلك البعض إلى أن يقنع بالبقية ، وهكذا يفعل شيئا فشيئا إلى أن يقمع تلك الصفات التي رسخت فيه ، وإلى هذا التدريج الإشارة بقوله صلى الله عليه وسلم : إن هذا الدين متين : فأوغل فيه برفق ولا تبغض إلى نفسك عبادة الله ، فإن المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى وإليه الإشارة بقوله عليه السلام : لا تشادوا هذا الدين ، فإن من يشاده يغلبه .
فإذا ما ذكرناه من علاج الصبر عن الوسواس ، وعن الشهوة ، وعن الجاه ، أضفه إلى ما ذكرناه من قوانين في كتاب رياضة النفس من ربع المهلكات فاتخذه ، دستورك لتعرف به علاج الصبر في جميع الأقسام التي فصلناها من قبل ، فإن تفصيل الآحاد يطول ، ومن راعى التدريج ترقى به الصبر إلى حال يشق عليه الصبر دون ، كما كان يشق عليه معه ، فتنعكس أموره فيصير ما كان محبوبا عنده ممقوتا ، وما كان مكروها عنده مشربا هنيئا لا يصبر عنه ، وهذا لا يعرف إلا بالتجربة والذوق وله نظير في العادات ، فإن الصبي يحمل على التعلم في الابتداء قهرا فيشق عليه الصبر عن اللعب والصبر مع العلم حتى إذا انفتحت بصيرته ، وأنس بالعلم ، انقلب الأمر فصار يشق عليه الصبر عن العلم والصبر على اللعب ، وإلى هذا يشير ما حكي عن بعض العارفين أنه سأل طرق المجاهدة الشبلي عن الصبر أيه أشد ؟ فقال الصبر في الله تعالى فقال : لا فقال : الصبر لله فقال : لا فقال ، الصبر مع الله فقال : لا فقال فأيش ، قال : الصبر عن الله فصرخ صرخة كادت روحه تتلف وقد قيل في الشبلي اصبروا وصابروا ورابطوا ، اصبروا في الله وصابروا بالله ورابطوا مع الله . معنى قوله تعالى :