لأنهما خلقا لغيرهما لا لنفسهما إذ لا غرض في عينهما فإذا اتجر في عينهما فقد اتخذهما مقصودا على خلاف وضع الحكمة إذ طلب النقد لغير ما وضع له ظلم ، ومن معه ثوب ولا نقد معه فقد لا يقدر على أن يشتري به طعاما ودابة ، إذ ربما لا يباع الطعام والدابة بالثوب فهو معذور في بيعه بنقد آخر ليحصل النقد فيتوصل به إلى مقصوده ، فإنهما وسيلتان إلى الغير لا غرض في أعيانهما وموقعهما ، في الأموال كموقع الحرف من الكلام ، كما قال النحويون : إن الحرف هو الذي جاء لمعنى في غيره وكموقع المرآة من الألوان ، فأما من معه نقد فلو جاز له أن يبيعه بالنقد فيتخذ التعامل على النقد غاية عمله فيبقى النقد مقيدا عنده وينزل منزلا ، المكنوز ، وتقييد الحاكم والبريد الموصل إلى الغير ظلم ، كما أن حبسه ظلم ، فلا معنى لبيع النقد بالنقد إلا اتخاذ النقد مقصودا للادخار ، وهو ظلم . وكل من عامل معاملة الربا على الدراهم والدنانير فقد كفر النعمة وظلم
فإن قلت : فلم جاز بيع أحد النقدين بالآخر ولما : جاز بيع الدرهم بمثله ، فاعلم أن أحد النقدين يخالف الآخر في مقصود التوصل ، إذ قد يتيسر التوصل بأحدهما من حيث كثرته كالدراهم تتفرق في الحاجات قليلا قليلا ، ففي المنع منه ما يشوش المقصود الخاص به ، وهو تيسر التوصل به إلى غيره ، وأما فجائز من حيث إن ذلك لا يرغب فيه عاقل مهما تساويا ولا يشتغل به تاجر فإنه عبث يجري مجرى وضع الدرهم على الأرض وأخذه بعينه ، ونحن لا نخاف على العقلاء أن يصرفوا أوقاتهم إلى وضع الدرهم على الأرض وأخذه بعينه فلا نمنع مما لا تتشوق النفوس إليه إلا أن يكون أحدهما أجود من الآخر وذلك أيضا لا يتصور جريانه إذ صاحب الجيد لا يرضى بمثله من الرديء فلا ينتظم العقد وإن طلب زيادة في الرديء فذلك مما قد يقصده فلا جرم نمنعه منه ، ونحكم بأن جيدها ورديئها سواء لأن الجودة والرداءة ينبغي أن ينظر إليهما فيما يقصد في عينه ، وما لا غرض في عينه فلا ينبغي أن ينظر إلى مضافات دقيقة في صفاته ، وإنما الذي ظلم هو الذي ضرب النقود مختلفة في الجودة والرداءة حتى صارت مقصودة في أعيانها وحقها أن لا تقصد . وأما إذا بيع الدرهم بدرهم يماثله فإنما لم يجز ذلك لأنه لا يقدم على هذا إلا مسامح قاصد الإحسان في ، القرض وهو مكرمة مندوحة عنه : لتبقى صورة المسامحة فيكون له حمد وأجر والمعاوضة لا حمد فيها ، ولا أجر ، فهو أيضا ظلم لأنه إضاعة خصوص المسامحة وإخراجها في معرض المعارضة ، وكذلك الأطعمة خلقت ليتغذى بها أو يتداوى بها فلا ينبغي أن تصرف على جهتها فإن فتح باب المعاملة فيها يوجب تقييدها في الأيدي ويؤخر عنها الأكل الذي أريدت له ، فما خلق الله الطعام إلا ليؤكل ، والحاجة إلى الأطعمة شديدة فينبغي أن تخرج عن يد المستغني عنها إلى المحتاج ولا يعامل على الأطعمة إلا مستغن عنها إذ من معه طعام فلم لا يأكله إن كان محتاجا ، ولم يجعله بضاعة تجارة ، وإن جعله بضاعة تجارة فليبعه ممن يطلبه بعوض غير الطعام يكون محتاجا إليه ، فأما من يطلبه بعين ذلك الطعام فهو أيضا مستغن عنه ، ولهذا ورد في الشرع باع درهما بدرهم مثله نسيئة ، وورد فيه من التشديدات ما ذكرناه في كتاب آداب الكسب نعم بائع البر بالتمر معذور إذ أحدهما لا يسد مسد الآخر في الغرض ، وبائع صاع من البر بصاع منه غير معذور ولكنه عابث فلا يحتاج إلى منع لأن النفوس لا تسمح به إلا عند التفاوت في الجودة ومقابلة الجيد بمثله من الرديء لا يرضى بها صاحب الجيد ، وأما جيد برديئين فقد يقصد ، ولكن لما كانت الأطعمة من الضروريات ، والجيد يساوي الرديء في أصل الفائدة ويخالفه في وجوه التنعم أسقط الشرع غرض التنعم فيما هو القوام ، فهذه لعن المحتكر وقد انكشف لنا هذا بعد الإعراض عن فن الفقه فلنلحق هذا بفن الفقهيات فإنه أقوى من جميع ما أوردناه في الخلافيات ، وبهذا يتضح رجحان مذهب حكمة الشرع في تحريم الربا رحمه الله في التخصص بالأطعمة دون المكيلات إذ لو دخل الجص فيه لكانت الثياب والدواب أولى بالدخول ، ولولا الملح لكان مذهب الشافعي رحمه الله أقوم المذاهب فيه إذ خصصه بالأوقات ولكن كل معنى يرعاه الشرع فلا بد أن يضبط بحد ، وتحديد هذا كان ممكنا بالقوت وكان ممكنا بالمطعوم فرأى الشرع التحديد بجنس المطعوم أحرى : لكل ما هو ضرورة البقاء وتحديدات الشرع قد تحيط بأطراف لا يقوى فيها أصل المعنى الباعث على الحكم ، ولكن التحديد يقع كذلك بالضرورة ولو لم يحد لتحير الخلق في اتباع جوهر المعنى مع اختلافه بالأحوال والأشخاص فعين المعنى بكمال قوته يختلف باختلاف الأحوال والأشخاص فيكون الحد ضروريا ، فلذلك قال الله تعالى : ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه . ولأن أصول هذه المعاني لا تختلف فيها الشرائع ، وإنما تختلف في وجوه التحديد ، كما يحد شرع مالك عيسى ابن مريم عليه السلام تحريم الخمر بالسكر ، وقد حده شرعنا بكونه من جنس المسكر لأن قليله يدعو إلى كثير ، والداخل في الحدود داخل في التحريم بحكم الجنس كما دخل أصل المعنى بالجملة الأصلية فهذا مثال واحد لحكمة خفية من حكم النقدين ، فينبغي أن يعتبر شكر النعمة وكفرانها بهذا المثال ، فكل ما خلق لحكمة فينبغي أن يصرف عنها ولا يعرف هذا إلا من قد عرف الحكمة ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا ولكن لا تصادف جواهر الحكم في قلوب هي مزابل الشهوات وملاعب الشياطين بل لا يتذكر إلا أولو الألباب ولذلك قال صلى الله عليه وسلم : لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السماء وإذا عرفت هذا المثال فقس عليه حركتك وسكونك ونطقك وسكوتك ، وكل فعل صادر منك ، فإنه إما شكر ، وإما كفر إذ لا يتصور أن ينفك عنهما ، وبعض ذلك نصفه في لسان الفقه الذي تناطق به عوام الناس بالكراهة وبعضه بالخطر ، وكل ذلك عند أرباب القلوب موصوف بالخطر ، فأقول مثلا لو استنجيت باليمنى فقد كفرت نعمة اليدين إذ خلق الله لك اليدين وجعل إحداهما أقوى من الأخرى فاستحق الأقوى بمزيد رجحانه في الغالب التشريف والتفضيل ، وتفضيل الناقص عدول عن العدل ، والله لا يأمر إلا بالعدل .