الطرف الثاني في أصناف . النعم في خلق الإرادات
اعلم أنه لو خلق لك البصر حتى تدرك به الغذاء من بعد ، ولم يخلق لك ميل في الطبع وشوق إليه وشهوة له تستحثك على الحركة ، لكان البشر معطلا فكم من مريض يرى الطعام ، وهو أنفع الأشياء له ، وقد سقطت شهوته فلا يتناوله ، فيبقى البصر والإدراك معطلا في حقه ، فاضطررت إلى أن يكون لك ميل إلى ما يوافقك يسمى شهوة ونفرة عما يخالفك تسمى كراهة ، لتطلب بالشهوة ، وتهرب بالكراهة ، فخلق الله تعالى فيك شهوة الطعام وسلطها عليك ووكلها بك كالمتقاضي : الذي يضطرك : إلى التناول حتى تتناول وتغتذي فتبقى بالغذاء ، وهذا مما يشاركك فيه الحيوانات دون النبات ، ثم هذه الشهوة لو لم تسكن إذا أخذت مقدار الحاجة أسرفت وأهلكت نفسك فخلق الله لك الكراهة عند الشبع لتترك الأكل بها لا كالزرع ، فإنه لا يزال يجتذب الماء إذا انصب في أسفله حتى يفسد فيحتاج إلى آدمي يقدر غذاءه بقدر الحاجة ، فيسقيه مرة ، ويقطع عنه الماء أخرى وكما خلقت لك هذه الشهوة حتى تأكل فيبقى به بدنك خلق لك شهوة الجماع حتى تجامع فيبقى به نسلك ولو قصصنا عليك وخلق دم الحيض ، وتأليف الجنين من المني ، ودم الحيض وكيفية خلق الأنثيين والعروق السالكة إليها من الفقار الذي هو مستقر النطفة وكيفية انصباب ماء المرأة من الترائب بواسطة العروق ، وكيفية انقسام مقعر الرحم إلى قوالب تقع النطفة في بعضها فتتشكل بشكل الذكور ، وتقع في بعضها فتتشكل بشكل الإناث وكيفية إدارتها في أطوار خلقها مضغة وعلقة ثم عظما ولحما ودما ، وكيفية قسمة أجزائها إلى رأس ويد ، ورجل ، وبطن ، وظهر ، وسائر الأعضاء ، لقضيت من أنواع نعم الله تعالى عليك في مبدأ خلقك كل العجب ، فضلا عما تراه الآن . ولكنا لسنا نريد أن نتعرض إلا لنعم الله تعالى في الأكل وحده كي لا ، يطول الكلام فإذا شهوة الطعام أحد ضروب الإرادات ، وذلك لا يكفيك ، فإنه تأتيك المهلكات من الجوانب فلو لم يخلق فيك الغضب الذي به تدفع كل ما يضادك ولا يوافقك لبقيت عرضة للآفات ولأخذ منك كل ما حصلته من الغذاء ، فإن كل واحد يشتهي ما في يديك فتحتاج إلى داعية في دفعه ومقاتلته ، وهي داعية الغضب الذي به تدفع كل ما يضادك ولا يوافقك ، ثم هذا لا يكفيك إذ الشهوة والغضب لا يدعوان إلى إلا ما يضر وينفع في الحال وأما ، في المآل فلا تكفي فيه هذه الإرادة فخلق الله تعالى لك إرادة أخرى مسخرة : تحت إشارة العقل المعرف للعواقب ، كما خلق الشهوة والغضب مسخرة تحت إدراك الحس المدرك للحالة الحاضرة فتم بها انتفاعك بالعقل ، إذ كان مجرد المعرفة بأن هذه الشهوة مثلا تضرك لا يغنيك في الاحتراز عنها ما لم يكن لك ميل إلى العمل بموجب المعرفة ، وهذه الإرادة أفردت بها عن البهائم إكراما لبني عجائب صنع الله تعالى في خلق الرحم ، آدم ، كما أفردت بمعرفة العواقب وقد سمينا هذه الإرادة باعثا دينيا ، وفصلناه في كتاب الصبر تفصيلا أوفى من هذا .