ولنقتصر على هذا القدر من بيان ولو ذكرنا كيفية احتياج الكبد إلى القلب ، والدماغ ، واحتياج كل واحد من هذه الأعضاء الرئيسية إلى صاحبه ، وكيفية انشعاب العروق الضوارب من القلب إلى سائر البدن وبواسطتها يصل الحس وكيفية انشعاب العروق السواكن من الكبد إلى سائر البدن ، وبواسطتها يصل الغذاء ، ثم كيفية تركب الأعضاء ، وعدد عظامها ، وعضلاتها ، وعروقها ، وأوتارها ، ورباطاتها ، وغضاريفها ، ورطوباتها ، لطال الكلام ، وكل ذلك محتاج إليه للأكل ، ولأمور أخر سواه بل في الآدمي آلاف من العضلات ، والعروق ، والأعصاب مختلفة بالصغر ، والكبر ، والدقة والغلظ ، وكثرة الانقسام ، وقلته ولا شيء منها إلا وفيه حكمة أو اثنتان أو ثلاث أو أربع إلى عشر وزيادة وكل ذلك نعم من الله تعالى عليك لو سكن من جملتها عرق متحرك أو تحرك عرق ساكن لهلكت يا مسكين ، فانظر إلى نعمة الله تعالى عليك أولا لتقوى بعدها على الشكر فإنك لا تعرف من نعمة الله سبحانه إلا الأكل وهو أخسها : ثم لا تعرف منها إلا أنك تجوع فتأكل ، والحمار أيضا يعلم أنه يجوع فيأكل ، ويتعب فينام ، ويشتهي فيجامع ويستنهض ، فينهض ويرمح ، فإذا لم تعرف أنت من نفسك إلا ما يعرف الحمار فكيف تقوم بشكر نعمة الله عليك ؟ وهذا الذي رمزنا إليه على الإيجاز : قطرة من بحر واحد من بحار نعم الله فقط فقس على الإجمال ما أهملناه : من جملة ما عرفناه حذرا من التطويل وجملة ما عرفناه وعرفه الخلق كلهم ، بالإضافة إلى ما لم يعرفوه من نعم الله تعالى ، أقل من قطرة من بحر إلا أن من علم شيئا من هذا أدرك شمة من معاني قوله تعالى : نعم الله تعالى في الأسباب التي أعدت للأكل ، وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها ، ثم انظر كيف ربط الله تعالى قوام هذه الأعضاء ، وقوام منافعها ، وإدراكاتها ، وقواها ، ببخار لطيف يتصاعد من الأخلاط الأربعة ، ومستقره القلب ، ويسري في جميع البدن بواسطة العروق الضوارب ، فلا ينتهي إلى جزء من أجزاء البدن إلا ويحدث عند وصوله في تلك الأجزاء ما يحتاج إليه من قوة حس وإدراك وقوة حركة وغيرها كالسراج الذي يدار في أطراف البيت فلا يصل إلى جزء إلا ويحصل بسبب وصوله ضوء على أجزاء البيت من خلق الله تعالى واختراعه ، ولكنه جعل السراج سببا له بحكمته ، وهذا البخار اللطيف هو الذي تسميه الأطباء الروح ومحله القلب ومثاله جرم نار السراج والقلب له كالمسرجة والدم الأسود الذي في باطن القلب له كالفتيلة والغذاء له كالزيت والحياة الظاهرة في سائر أعضاء البدن بسببه كالضوء للسراج في جملة البيت ، وكما أن السراج إذا انقطع زيته انطفأ فسراج الروح أيضا ينطفئ مهما انقطع غذاؤه ، وكما أن الفتيلة قد تحترق فتصير رمادا بحيث لا تقبل الزيت . فينطفئ السراج مع كثرة الزيت فكذلك الدم الذي تشبث به هذا البخار في القلب قد يحترق بفرط حرارة القلب فينطفئ مع وجود الغذاء فإنه لا يقبل الغذاء الذي يبقى به الروح كما لا يقبل الرماد الزيت قبولا تتشبث النار به ، وكما أن السراج تارة ينطفئ بسبب من داخل كما ذكرناه ، وتارة بسبب من خارج كريح عاصف فكذلك الروح تارة تنطفئ بسبب من داخل ، وتارة بسبب من خارج ، وهو القتل ، وكما أن انطفاء السراج بفناء الزيت أو بفساد الفتيلة أو بريح عاصف أو بإطفاء إنسان لا يكون إلا بأسباب مقدرة في علم الله مرتبة ، ويكون كل ذلك بقدر فكذلك انطفاء الروح ، وكما أن انطفاء السراج هو منتهى وقت وجوده فيكون ذلك أجله الذي أجل له في أم الكتاب فكذلك انطفاء الروح ، وكما أن السراج إذا انطفأ أظلم البيت كله فالروح إذا انطفأ أظلم البدن كله وفارقته ، أنواره التي كان يستفيدها من الروح ، وهي أنوار الإحساسات والقدر والإرادات وسائر ما .يجمعها معنى لفظ الحياة فهذا أيضا رمز وجيز إلى عالم آخر من عوالم نعم الله تعالى وعجائب صنعه وحكمته ، ليعلم أنه لو كان البحر مدادا لكلمات ربي : لنفد البحر : قبل أن تنفد كلمات ربي عز وجل فتعسا لمن كفر بالله تعسا وسحقا لمن كفر نعمته سحقا .
فإن قلت فقد وصفت الروح ومثلته ورسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الروح فلم يزد عن أن قال : " قل الروح من أمر ربي " فلم يصفه لهم على هذا الوجه فاعلم أن هذه غفلة عن الاشتراك الواقع في لفظ الروح ، فإن الروح يطلق لمعان كثيرة لا نطول بذكرها نحن إنما وصفنا من جملتها جسما لطيفا تسميه الأطباء روحا ، وقد عرفوا صفته ووجوده وكيفية سريانه في الأعضاء ، وكيفية حصول الإحساس والقوى في الأعضاء به حتى إذا خدر بعض الأعضاء علموا أن ذلك لوقوع سدة في مجرى هذا الروح فلا يعالجون موضع الخدر بل منابت الأعصاب ومواقع السدة فيها ويعالجونها بما يفتح السدة فإن هذا الجسم بلطفه ينفذ في شباك العصب وبواسطته يتأدى من القلب إلى سائر الأعضاء وما يرتقي إليه معرفة الأطباء فأمره سهل نازل .