الطرف الرابع في . نعم الله تعالى في الأصول التي يحصل منها الأطعمة
وتصير صالحة لأن يصلحها الآدمي بعد ذلك بصنعته .
اعلم أن الأطعمة كثيرة ، ولله تعالى في خلقها عجائب كثيرة لا تحصى ، وأسباب متوالية : لا تتناهى ، وذكر ذلك في كل طعام مما يطول فإن الأطعمة إما أدوية وإما فواكه وإما أغذية ، فلنأخذ الأغذية فإنها الأصل ولنأخذ من جملتها حبة من البر ولندع سائر الأغذية ، فنقول : إذا وجدت حبة أو حبات فلو أكلتها فنيت وبقيت جائعا ؛ فما أحوجك إلى أن تنمو الحبة في نفسها ، وتزيد وتتضاعف حتى تفي بتمام حاجتك ، فخلق الله تعالى في حبة الحنطة من القوى ما يغتذى به ، كما خلق فيك فإن النبات إنما يفارقك في الحس والحركة ولا يخالفك في الاغتذاء ، لأنه يغتذي بالماء ويجتذب إلى باطنه بواسطة العروق كما تغتذي أنت وتجتذب . ولسنا نطنب في ذكر آلات النبات في اجتذاب الغذاء إلى نفسه ولكن نشير إلى غذائه فنقول : كما أن الخشب والتراب لا يغذيك بل تحتاج إلى طعام مخصوص ، فكذلك الحبة لا تغتذي بكل شيء بل تحتاج إلى شيء مخصوص بدليل أنك لو تركتها في البيت لم تزد لأنه ليس يحيط بها إلا هواء ومجرد الهواء لا يصلح لغذائها ، ولو تركتها في الماء لم تزد ولو تركتها في أرض لا ماء فيها لم تزد بل لا بد من أرض فيها ماء يمتزج ماؤها بالأرض فيصير طينا وإليه الإشارة بقوله تعالى فلينظر الإنسان إلى طعامه أنا صببنا الماء صبا ثم شققنا الأرض شقا فأنبتنا فيها حبا وعنبا وقضبا وزيتونا ونخلا الآية ثم لا يكفي الماء والتراب ؛ إذ لو تركت في أرض ندية صلبة متراكمة لم تنبت لفقد الهواء فيحتاج إلى تركها في أرض رخوة متخلخلة يتغلغل الهواء إليها ثم الهواء لا يتحرك إليها بنفسه فيحتاج إلى ريح تحرك الهواء وتضربه بقهر وعنف على الأرض حتى ينفذ فيها ، وإليه الإشارة بقوله تعالى : وأرسلنا الرياح لواقح : وإنما إلقاحها في إيقاع الازدواج بين الهواء والماء والأرض ثم كل ذلك لا يغنيك لو كان في برد مفرط وشتاء شات فتحتاج إلى حرارة الربيع والصيف ، فقد بان احتياج غذائه إلى هذه الأربعة ؛ فانظر إلى ماذا يحتاج كل واحد إذ يحتاج ؛ الماء لينساق إلى أرض الزراعة من البحار والعيون والأنهار والسواقي ، فانظر كيف خلق الله البحار وفجر العيون وأجرى منها الأنهار ثم الأرض ربما تكون مرتفعة والمياه لا ترتفع إليها فانظر كيف خلق الله تعالى الغيوم وكيف سلط الرياح عليها لتسوقها بإذنه إلى أقطار الأرض ، وهي سحب ثقال حوامل بالماء ، ثم انظر كيف يرسله مدرارا على الأراضي في وقت الربيع والخريف على حسب الحاجة وانظر كيف خلق الجبال حافظة للمياه تتفجر منها العيون تدريجا فلو خرجت دفعة لغرقت البلاد وهلك الزرع والمواشي ، ونعم الله في الجبال والسحاب والبحار والأمطار لا يمكن إحصاؤها وأما الحرارة فإنها لا تحصل بين الماء والأرض وكلاهما باردان فانظر كيف سخر الشمس وكيف خلقها مع بعدها عن الأرض مسخنة للأرض في وقت دون وقت ليحصل البرد عند الحاجة إلى البرد والحر عند الحاجة إلى الحر فهذه إحدى حكم الشمس والحكم فيها أكثر من أن تحصى ثم النبات إذا ارتفع عن الأرض كان في الفواكه انعقاد وصلابة فتفتقر إلى رطوبة تنضجها ، فانظر كيف خلق القمر وجعل من خاصيته الترطيب ، كما جعل من خاصية الشمس التسخين ، فهو ينضج الفواكه ويصبغها : بتقدير الفاطر الحكيم .
ولذلك لو كانت الأشجار في ظل يمنع شروق الشمس والقمر وسائر الكواكب عليها لكانت فاسدة ناقصة حتى إن الشجرة الصغيرة تفسد إذا ظللتها شجرة كبيرة وتعرف ترطيب القمر بأن تكشف رأسك له بالليل فتغلب على رأسك الرطوبة التي يعبر عنها بالزكام فكما يرطب رأسك يرطب الفاكهة أيضا . ولا نطول فيما لا مطمع في استقصائه بل نقول : كل كوكب في السماء فقد سخر لنوع فائدة كما سخرت الشمس للتسخين ، والقمر للترطيب ، فلا يخلو واحد منها عن حكم كثيرة لا تفي قوة البشر بإحصائها ، ولو لم يكن كذلك لكان خلقها عبثا وباطلا ، ولم يصح قوله تعالى : ربنا ما خلقت هذا باطلا وقوله عز وجل: وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين وكما أنه ليس في أعضاء بدنك عضو إلا لفائدة فليس في أعضاء بدن العالم عضو إلا لفائدة والعالم كله كشخص واحد وآحاد أجسامه كالأعضاء له ، وهي متعاونة تعاون أعضاء بدنك في جملة بدنك ، وشرح ذلك يطول ، ولا ينبغي أن تظن أن الإيمان بأن النجوم والشمس والقمر مسخرات بأمر الله سبحانه في أمور جعلت أسبابا لها بحكم الحكمة مخالف للشرع لما ، ورد فيه من وعن علم النجوم . النهي عن تصديق المنجمين
بل المنهي عنه في النجوم أمران : أحدهما أن تصدق بأنها فاعلة لآثارها مستقلة بها ، وأنها ليست مسخرة تحت تدبير مدبر خلقها وقهرها ، وهذا كفر .