الطرف الثامن في بيان نعمة الله تعالى في خلق الملائكة عليهم السلام
ليس يخفى عليك ما سبق من وتبليغ الوحي إليهم ولا تظنن أنهم مقتصرون في أفعالهم على ذلك القدر بل طبقات الملائكة مع كثرتها ، وترتيب مراتبها ، تنحصر بالجملة في ثلاث طبقات : الملائكة الأرضية ، والسماوية ، وحملة العرش فانظر كيف وكلهم الله تعالى بك فيما يرجع إلى الأكل والغذاء الذي ذكرناه دون ما يجاوز ذلك من الهداية والإرشاد وغيرهما . واعلم أن كل جزء من أجزاء بدنك بل من أجزاء النبات لا يغتذي إلا بأن يوكل به سبعة من الملائكة هو أقله إلى عشرة إلى مائة إلى ما وراء ذلك وبيانه أن معنى الغذاء أن يقوم جزء من الغذاء مقام جزء وقد تلف وذلك الغذاء يصير دما في آخر الأمر ثم يصير لحما وعظما وإذا صار لحما وعظما تم اغتذاؤك ، والدم واللحم أجسام ليس لها قدرة ومعرفة واختيار فهي لا تتحرك بأنفسها ولا تتغير بأنفسها ، ومجرد الطبع لا يكفي في ترددها في أطوارها كما أن البر بنفسه لا يصير طحينا ثم عجينا ثم خبزا مستديرا مخبوزا إلا بصناع ، فكذلك الدم بنفسه لا يصير لحما وعظما وعروقا وعصبا إلا بصناع ، والصناع في الباطن هم الملائكة ، كما أن الصناع في الظاهر هم أهل البلد ، وقد نعمة الله في خلق الملائكة بإصلاح الأنبياء عليهم السلام ، وهدايتهم ، فلا ينبغي أن تغفل عن نعمه الباطنة فأقول لا بد من ملك يجذب الغذاء إلى جوار اللحم والعظم ، فإن الغذاء لا يتحرك بنفسه ولا بد من ملك آخر يمسك الغذاء في جواره ، ولا بد من ثالث يخلع عليه صورة الدم ، ولا بد من رابع يكسوه صورة اللحم والعروق أو العظم ولا بد من خامس يدفع الفضل الفاضل عن حاجة الغذاء ولا بد من سادس يلصق ما اكتسب صفة العظم بالعظم ، وما اكتسب صفة اللحم باللحم ، حتى لا يكون منفصلا ، ولا بد من سابع يرعى المقادير في الإلصاق فيلحق بالمستدير ما لا يبطل استدارته ، وبالعريض ما لا يزيل عرضه ، وبالمجوف ما لا يبطل تجويفه ، ويحفظ على كل واحد قدر حاجته ، فإنه لو جمع مثلا من الغذاء على أنف الصبي ما يجمع على فخذه لكبر أنفه وبطل تجويفه وتشوهت صورته وخلقته بل ينبغي أن يسوق إلى الأجفان مع رقتها ، وإلى الحدقة مع صفائها ، وإلى الأفخاذ مع غلظها ، وإلى العظم مع صلابته ، ما يليق بكل واحد منها من حيث القدر والشكل ، وإلا بطلت الصورة أسبغ الله تعالى عليك نعمه ظاهرة وباطنة
وربا : بعض المواضع ، وضعف بعض المواضع ، بل لو لم يراع هذا الملك العادل في القسمة والتقسيط فساق إلى رأس الصبي وسائر بدنه من الغذاء ما ينمو به إلا إحدى الرجلين مثلا لبقيت تلك الرجل كما كانت في حد الصغر ، وكبر جميع البدن ، فكنت ترى شخصا في ضخامة رجل ، وله رجل واحدة ، كأنها رجل صبي ، فلا ينتفع بنفسه البتة . فمراعاة هذه الهندسة في هذه القسمة مفوضة إلى ملك من الملائكة ولا تظنن أن الدم بطبعه يهندس شكل نفسه فإن محيل هذه الأمور على الطبع جاهل لا يدري ما يقول فهذه هي الملائكة الأرضية وقد شغلوا بك وأنت في النوم تستريح ، وفي الغفلة تتردد ، وهم يصلحون الغذاء في باطنك ، ولا خبر لك منهم ، وذلك في كل جزء من أجزائك الذي لا يتجزأ حتى يفتقر بعض الأجزاء ، كالعين والقلب ، إلى أكثر من مائة ملك ، تركنا تفصيل ذلك للإيجاز والملائكة الأرضية مددهم من الملائكة السماوية على ترتيب معلوم لا يحيط بكنهه إلا الله تعالى ، ومدد الملائكة السماوية من حملة العرش والمنعم على جملتهم بالتأييد والهداية والتسديد جبار السموات والأرض مالك الملك ذو الجلال والإكرام والأخبار الواردة في الملائكة الموكلين بالسموات والأرض ، وأجزاء النبات والحيوانات ، حتى كل قطرة من المطر ، وكل سحاب ينجر من جانب إلى جانب ، أكثر من أن تحصى ، فلذلك تركنا الاستشهاد به المهيمن القدوس المنفرد بالملك والملكوت والعزة والجبروت
.