ومهما تأملت الناس كلهم وجدتهم يشكون ويتألمون من أمور وراء هذه الثلاث مع أنها وبال عليهم ، ولا يشكرون نعمة الله في هذه الثلاث ولا يشكرون نعمة الله عليهم في الإيمان الذي به وصولهم إلى النعيم المقيم ، والملك العظيم بل البصير : ينبغي أن لا يفرح إلا بالمعرفة واليقين والإيمان بل نحن نعلم من العلماء من لو سلم إليه جميع ما دخل تحت قدرة ملوك الأرض من المشرق إلى المغرب من أموال وأتباع وأنصار وقيل له : خذها عوضا عن علمك بل عن عشر عشير علمك لم يأخذه وذلك لرجائه أن بل لو قيل له : لك في الآخرة ما ترجوه بكماله فخذ هذه اللذات في الدنيا بدلا عن التذاذك بالعلم في الدنيا وفرحك به ، لكان لا يأخذه لعلمه بأن لذة العلم دائمة لا تنقطع ، وباقية لا تسرق ولا ، تغصب ، ولا ينافس فيها ، وأنها صافية لا كدورة فيها ، ولذات الدنيا كلها ناقصة ، مكدرة مشوشة لا يفي مرجوها بمخوفها ، ولا ، لذتها بألمها ولا فرحها بغمها هكذا كانت إلى الآن ، وهكذا تكون ما بقي من الزمان إذ ما خلقت لذات الدنيا إلا لتجلب بها العقول الناقصة وتخدع ، حتى إذا انخدعت وتقيدت بها أبت عليها واستعصت كالمرأة الجميل ظاهرها تتزين للشاب الشبق الغبي حتى إذا تقيد بها قلبه استعصت عليه واحتجبت عنه فلا يزال معها في تعب قائم ، وعناء دائم ، وكل ذلك باغتراره بلذة النظر إليها في ، لحظة ولو عقل وغض البصر واستهان بتلك اللذة سلم جميع عمره فهكذا وقعت أرباب الدنيا في شباك الدنيا وحبائلها ولا ينبغي أن نقول إن المعرض عن الدنيا متألم بالصبر عنها ، فإن المقبل عليها أيضا متألم بالصبر عليها وحفظها وتحصيلها ، ودفع اللصوص عنها ، وتألم المعرض يفضي إلى لذة في الآخرة وتألم المقبل يفضي إلى الألم في الآخرة فليقرأ المعرض عن الدنيا على نفسه قوله تعالى : " نعمة العلم تفضي به إلى قرب الله تعالى في الآخرة ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون فإذا إنما والخاصة ، والعامة انسد طريق الشكر على الخلق لجهلهم بضروب النعم الظاهرة ، والباطنة ،
فإن قلت : فما علاج هذه القلوب الغافلة حتى تشعر بنعم الله تعالى فعساها تشكر ؟ فأقول : أما القلوب البصيرة فعلاجها التأمل فيما رمزنا إليه من أصناف نعم الله تعالى العامة وأما القلوب البليدة التي لا تعد النعمة نعمة إلا إذا خصتها أو شعرت بالبلاء معها فسبيله أن ينظر أبدا إلى من دونه ويفعل ما كان يفعله بعض الصوفية إذ كان كل يوم يحضر دار المرضى والمقابر والمواضع التي تقام فيها الحدود فكان يحضر دار المرضى ليشاهد أنواع بلاء الله تعالى عليهم ثم يتأمل في صحته وسلامته فيشعر قلبه بنعمة الصحة عند شعوره ببلاء الأمراض ويشكر الله تعالى ويشاهد الجناة الذين يقتلون وتقطع أطرافهم ويعذبون بأنواع العذاب ليشكر الله تعالى على عصمته من الجنايات ومن تلك العقوبات ، ويشكر الله تعالى على نعمة الأمن ويحضر المقابر فيعلم أن أحب الأشياء إلى الموتى أن يردوا إلى الدنيا ولو يوما واحدا أما من عصى الله تعالى فليتدارك ، وأما من أطاع فليزد في طاعته . فإن يوم القيامة يوم التغابن فالمطيع مغبون إذ يرى جزاء طاعته فيقول : كنت أقدر على أكثر من هذه الطاعات فما أعظم غبني إذ ضيعت بعض الأوقات في المباحات ، وأما العاصي فغبنه ظاهر فإذا شاهد المقابر ، وعلم أن أحب الأشياء إليهم : أن يكون قد بقي لهم من العمر ما بقي له فيصرف بقية العمر إلى ما يشتهي أهل القبور العود لأجله ليكون ذلك معرفة لنعم الله تعالى في بقية العمر ، بل في الإمهال في كل نفس من الأنفاس ، وإذا عرف تلك النعمة شكر بأن يصرف العمر إلى ما خلق العمر لأجله ، وهو التزود من الدنيا للآخرة فهذا علاج هذه القلوب الغافلة لتشعر بنعم الله تعالى ،
فعساها تشكر . وقد كان مع تمام استبصاره يستعين بهذه الطريق تأكيدا للمعرفة فكان قد حفر في داره قبرا فكان يضع غلا في عنقه ، وينام في لحده ، ثم يقول الربيع بن خثيم رب ارجعون لعلي أعمل صالحا ، ثم يقوم ويقول يا ربيع قد أعطيت ما سألت فاعمل قبل أن تسأل الرجوع فلا ترد
ومما ينبغي أن تعالج به القلوب البعيدة عن الشكر أن تعرف أن ولذلك كان النعمة إذا لم تشكر زالت ولم تعد ؛ رحمه الله : يقول عليكم بملازمة الشكر على النعم ، فقل نعمة زالت عن القوم فعادت إليهم وقال بعض السلف : النعم وحشية فقيدوها بالشكر وفي الخبر : الفضيل بن عياض وقال الله سبحانه : وتعالى ما عظمت نعمة الله تعالى على عبد إلا كثرت حوائج الناس إليه ، فمن تهاون بهم عرض تلك النعمة للزوال إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم فهذا تمام هذا الركن
.