ومنها إبهام الله تعالى أمر القيامة وإبهامه بعض الكبائر فكل ذلك نعمة لأن هذا الجهل يوفر دواعيك على الطلب والاجتهاد فهذه وجوه نعم الله تعالى في الجهل ، فكيف في العلم ؟! وحيث قلنا إن لله تعالى في كل موجود نعمة فهو حق وذلك مطرد في حق كل أحد ولا يستثنى عنه بالظن إلا الآلام التي يخلقها في بعض الناس ، وهي أيضا قد تكون نعمة في حق المتألم بها ، فإن لم تكن نعمة في حقه ، كالألم الحاصل من المعصية كقطعه يد نفسه ، ووشمه بشرته فإنه يتألم به وهو عاص به ، وألم الكفار في النار فهو أيضا نعمة ، ولكن في حق غيرهم من العباد لا في حقهم ؛ لأن مصائب قوم عند قوم فوائد ولولا أن الله تعالى خلق العذاب وعذب به طائفة لما عرف المتنعمون قدر نعمه ، ولو كثر فرحهم بها ، ففرح أهل الجنة إنما يتضاعف إذا تفكروا في آلام أهل النار أما ترى أهل الدنيا ليس يشتد فرحهم بنور الشمس مع شدة حاجتهم إليه من حيث إنها عامة مبذولة ولا يشتد فرحهم بالنظر إلى زينة السماء وهي أحسن من كل بستان لهم في الأرض يجتهدون في عمارته ولكن زينة السماء لما عمت لم يشعروا بها ولم يفرحوا بسببها فإذا قد صح ما ذكرناه من أن وإبهامه ليلة القدر وساعة يوم الجمعة ولا خلق شيئا إلا وفيه نعمة ، إما على جميع عباده أو على بعضهم ، فإذا في خلق الله تعالى البلاء نعمة أيضا إما على المبتلى أو على غير المبتلى . فإذا كل حالة لا توصف بأنها بلاء مطلق ولا نعمة مطلقة فيجتمع فيها على العبد وظيفتان الصبر والشكر جميعا الله تعالى لم يخلق شيئا إلا وفيه حكمة
فإن قلت فهما متضادان فكيف يجتمعان ؛ إذ لا صبر إلا على غم ولا شكر إلا على فرح ؟ فاعلم أن الشيء الوحيد قد يغتم به من وجه ، ويفرح به من وجه آخر ، فيكون الصبر من حيث الاغتمام ، والشكر من حيث الفرح ، وفي كل فقر ومرض وخوف وبلاء في الدنيا خمسة أمور ينبغي أن يفرح الغافل بها ويشكر عليها أحدها أن كل مصيبة ومرض فيتصور أن يكون أكبر منها ؛ إذ مقدورات الله تعالى لا تتناهى فلو ضعفها الله تعالى وزادها ماذا كان يرده ويحجزه فليشكر إذ لم تكن أعظم منها في الدنيا
الثاني أنه كان يمكن أن تكون مصيبته في دينه قال رجل لسهل رضي الله تعالى عنه دخل اللص بيتي وأخذ متاعي فقال اشكر الله تعالى لو دخل الشيطان قلبك فأفسد التوحيد ماذا كنت تصنع ولذلك استعاذ عيسى عليه الصلاة والسلام في دعائه ؛ إذ قال : اللهم لا تجعل مصيبتي في ديني : وقال رضي الله تعالى عنه : ما ابتليت ببلاء إلا كان لله تعالى علي فيه أربع نعم إذ لم يكن في ديني وإذ لم يكن أعظم منه وإذ لم أحرم الرضا به وإذ أرجو الثواب عليه وكان لبعض أرباب القلوب صديق فحبسه السلطان فأرسل إليه : يعلمه ويشكو إليه فقال له اشكر الله : فضربه فأرسل إليه يعلمه ويشكو إليه فقال اشكر الله فجيء بمجوسي فحبس عنده ، وكان مبطونا فقيد ، وجعل حلقة من قيده في رجله ، وحلقة في رجل المجوسي فأرسل إليه فقال : اشكر الله فكان المجوسي يحتاج إلى أن يقوم مرات وهو : يحتاج إلى أن يقوم معه ويقف على رأسه حتى يقضي حاجته فكتب إليه بذلك فقال : اشكر الله فقال : إلى متى هذا وأي بلاء أعظم من هذا فقال : لو جعل الزنار الذي في وسطه على وسطك ماذا كنت تصنع ؟ فإذا ما من إنسان أصيب ببلاء إلا ولو تأمل حق التأمل في سوء أدبه ، ظاهرا وباطنا ، في حق مولاه ، لكان يرى أنه يستحق أكثر مما أصيب به عاجلا وآجلا ، ومن استحق عليك أن يضربك مائة سوط فاقتصر على عشرة فهو مستحق للشكر ومن استحق عليك أن يقطع يديك فترك إحداهما فهو مستحق للشكر ولذلك مر بعض الشيوخ في شارع فصب على رأسه طشت من رماد فسجد لله تعالى سجدة الشكر فقيل له : ما هذه السجدة ؟! فقال كنت أنتظر أن تصب علي النار فالاقتصار على الرماد نعمة وقيل لبعضهم : لا تخرج إلى الاستسقاء ؛ فقد احتبست الأمطار ؟ فقال : أنتم تستبطئون المطر ، وأنا استبطئ الحجر . عمر بن الخطاب