بيان دواء الرجاء والسبيل الذي يحصل منه حال الرجاء ويغلب
اعلم أن هذا الدواء يحتاج إليه أحد رجلين ، إما رجل غلب عليه اليأس فترك العبادة وإما رجل غلب عليه الخوف فأسرف في المواظبة على العبادة حتى أضر بنفسه وأهله وهذان رجلان مائلان عن الاعتدال إلى طرفي الإفراط والتفريط فيحتاجان إلى علاج يردهما إلى الاعتدال فأما ، فأدوية الرجاء تنقلب سموما مهلكة في حقه ، وتنزل منزلة العسل الذي هو شفاء لمن غلب عليه البرد وهو سم مهلك لمن غلب عليه الحرارة بل المغرور لا يستعمل في حقه إلا أدوية الخوف ، والأسباب المهيجة له فلهذا يجب أن يكون واعظ الخلق متلطفا ناظرا إلى مواقع العلل ، معالجا لكل علة بما يضادها ، لا بما يزيد فيها فإن المطلوب هو العدل والقصد في الصفات والأخلاق كلها ، العاصي المغرور المتمني على الله مع الإعراض عن العبادة ، واقتحام المعاصي فإذا جاوز الوسط إلى أحد الطرفين عولج بما يرده إلى الوسط لا بما يزيد في ميله عن الوسط ، وهذا الزمان زمان لا ينبغي أن يستعمل فيه مع الخلق أسباب الرجاء بل المبالغة في التخويف أيضا تكاد : أن لا تردهم إلى جادة الحق وسنن الصواب : فأما ذكر أسباب الرجاء : فيهلكهم ويرديهم بالكلية ولكنها لما كانت أخف على القلوب ، وألذ عند النفوس ولم يكن غرض الوعاظ إلا استمالة القلوب واستنطاق الخلق بالثناء كيفما كانوا مالوا إلى الرجاء حتى ازداد الفساد فسادا وازداد المنهمكون في طغيانهم تماديا وخير الأمور أوساطها
قال علي كرم الله وجهه إنما العالم الذي لا يقنط الناس من رحمة الله تعالى ولا يؤمنهم من مكر الله
ونحن نذكر اقتداء بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ، فإنهما مشتملان على الخوف والرجاء جميعا ، لأنهما جامعان لأسباب الشفاء في حق أصناف المرضى ، ليستعمله العلماء الذين هم ورثة الأنبياء بحسب الحاجة استعمال الطبيب الحاذق لا استعمال الأخرق الذي يظن أن كل شيء من الأدوية صالح لكل مريض كيفما كان . أسباب الرجاء لتستعمل في حق الآيس أو فيمن غلب عليه الخوف
: وحال الرجاء يغلب بشيئين أحدهما الاعتبار والآخر استقراء الآيات والأخبار والآثار
أما الاعتبار فهو أن يتأمل جميع ما ذكرناه في أصناف النعم من كتاب الشكر حتى إذا علم لطائف نعم الله تعالى لعباده في الدنيا ، وعجائب حكمه التي راعاها في فطرة الإنسان : حتى أعد له في الدنيا كل ما هو ضروري له في دوام الوجود كآلات الغذاء ، وما هو محتاج إليه ، كالأصابع والأظفار ، وما هو زينة له ، كاستقواس الحاجبين : واختلاف ألوان العينين وحمرة الشفتين ، وغير ذلك مما كان لا ينثلم بفقده غرض مقصود : وإنما كان يفوت به مزية جمال فالعناية الإلهية إذا لم تقصر عن عباده في أمثال هذه الدقائق حتى لم يرض لعباده أن تفوتهم المزايد والمزايا في الزينة والحاجة ، كيف يرضى بسياقهم إلى الهلاك المؤبد . بل إذا نظر الإنسان نظرا شافيا علم أن أكثر الخلق قد هيئ له أسباب السعادة في الدنيا ، حتى إنه يكره الانتقال من الدنيا بالموت وإن أخبر بأنه لا يعذب بعد الموت أبدا مثلا أو لا يحشر أصلا فليست كراهتهم للعدم إلا لأن أسباب النعم أغلب لا محالة ، وإنما الذي يتمنى الموت نادر ثم لا يتمناه إلا في حال نادرة ، وواقعة هاجمة غريبة فإذا كان حال أكثر الخلق في الدنيا الغالب عليه الخير والسلامة ، فسنة الله لا تجد لها تبديلا فالغالب أن أمر الآخرة هكذا يكون ؛ لأن مدبر الدنيا والآخرة واحد ، وهو غفور رحيم ، لطيف بعباده ، متعطف عليهم ، فهذا إذا تؤمل حق التأمل قوي به أسباب الرجاء ومن الاعتبار أيضا النظر في حكمة الشريعة وسنتها في مصالح الدنيا ، ووجه الرحمة للعباد بها ، حتى كان بعض العارفين يرى آية المداينة في البقرة من أقوى أسباب الرجاء
فقيل له : وما فيها من الرجاء ؟ فقال : الدنيا كلها قليل ورزق الإنسان منها قليل والدين قليل عن رزقه ، فانظر كيف أنزل الله تعالى فيه أطول آية ليهدي عبده إلى طريق الاحتياط في حفظ دينه ، فكيف لا يحفظ دينه الذي لا عوض له منه .