واعلم أن وصاحب هذه الحالة من المقربين فلا جرم صار الزهد في حقه نقصانا ، إذ حسنات الأبرار سيئات المقربين وهذا لأن الكاره للدنيا مشغول بالدنيا كما أن الراغب فيها مشغول بها والشغل بما سوى الله تعالى حجاب عن الله تعالى ، إذ لا بعد بينك وبين الله تعالى حتى يكون البعد حجابا فإنه أقرب إليك من حبل الوريد وليس هو في مكان حتى تكون السماوات والأرض حجابا بينك وبينه فلا حجاب بينك وبينه إلا شغلك بغيره وشغلك بنفسك وشهواتك شغل بغيره ، وأنت لا تزال مشغولا بنفسك وبشهوات نفسك ، فكذلك لا تزال محجوبا عنه فالمشغول بحب نفسه مشغول عن الله تعالى والمشغول ببغض نفسه أيضا مشغول عن الله تعالى بكل ما سوى الله مثاله مثال الرقيب الحاضر في مجلس يجمع العاشق والمعشوق فإن التفت قلب العاشق إلى الرقيب وإلى بغضه واستثقاله وكراهة حضوره فهو في حال اشتغال قلبه ببغضه مصروف عن التلذذ بمشاهدة معشوقه ولو استغرقه العشق لغفل عن غير المعشوق ولم يلتفت إليه فكما أن النظر إلى غير المعشوق لحبه عند حضور المعشوق شرك في العشق ونقص فيه ، فكذا النظر إلى غير المحبوب لبغضه شرك فيه ونقص ولكن أحدهما أخف من الآخر بل الكمال في أن لا يلتفت القلب إلى غير المحبوب بغضا وحبا ، فإنه كما لا يجتمع في القلب حبان الزهد درجة هي كمال الأبرار ،
كرم الله وجهه الله جل ذكره في حالة واحدة ، فلا يجتمع أيضا بغض وحب في حالة واحدة ، فالمشغول ببغض الدنيا غافل عن الله كالمشغول بحبها إلا أن المشغول بحبها غافل وهو في غفلته سالك في طريق البعد والمشغول ببعضها غافل وهو في غفلته سالك في طريق القرب إذ يرجى له أن ينتهي حاله إلى أن تزول هذه الغفلة وتتبدل بالشهود فالكمال مرتقب لأن بغض الدنيا مطية توصل إلى الله فالمحب والمبغض كرجلين في طريق الحج مشغولين بركوب الناقة علفها وتسييرها ولكن أحدهما مستقبل الكعبة والآخر مستدبر لها فهما سيان بالإضافة إلى الحال في أن كل واحد منهما محجوب عن الكعبة ومشغول عنها ولكن حال المستقبل محمود بالإضافة إلى المستدبر إذ يرجى له الوصول إليها ، وليس محمودا بالإضافة إلى المعتكف في الكعبة الملازم لها الذي لا يخرج منها حتى يفتقر إلى الاشتغال بالدابة في الوصول إليها فلا ينبغي أن تظن أنمقصود في عينه بل الدنيا عائق عن الله تعالى ولا وصول إليه إلا بدفع العائق ولذلك قال بغض الدنيا رحمه الله من زهد في الدنيا واقتصر عليه فقد استعجل الراحة بل ينبغي أن يشتغل بالآخرة فبين أن سلوك أبو سليمان الداراني كما أن سلوك طريق الحج وراء دفع الغريم العائق عن الحج فإذن قد ظهر أن الزهد في الدنيا إن أريد به عدم الرغبة في وجودها وعدمها فهو غاية الكمال ، وإن أريد به الرغبة في عدمها فهو كمال بالإضافة إلى درجة الراضي والقانع والحريص ونقصان بالإضافة إلى درجة المستغني بل الكمال في حق المال أن يستوي عندك المال والماء ، وكثرة الماء في جوارك لا تؤذيك بأن تكون على شاطئ البحر ولا قلته تؤذيك إلا في قدر الضرورة مع أن المال محتاج إليه كما أن الماء محتاج إليه فلا يكون قلبك مشغولا بالفرار عن جوار الماء الكثير ولا ببغض الماء الكثير بل تقول : أشرب منه بقدر الحاجة وأسقي منه عباد الله بقدر الحاجة ولا أبخل به على أحد ، فهكذا ينبغي أن يكون المال ؛ لأن الخبز والماء واحد في الحاجة وإنما الفرق بينهما في قلة أحدهما وكثرة الآخر ، وإذا عرفت الله تعالى ووثقت بتدبيره الذي دبر به العالم علمت أن قدر حاجتك من الخبز يأتيك لا محالة ما دمت حيا كما يأتيك قدر حاجتك من الماء على ما سيأتي بيانه في كتاب التوكل إن شاء الله تعالى . طريق الآخرة وراء الزهد
قال أحمد بن أبي الحواري قلت : قال مالك بن دينار لأبي سليمان الداراني للمغيرة : اذهب إلى البيت فخذ الركوة التي أهديتها لي فإن العدو يوسوس لي أن اللص قد أخذها قال أبو سليمان هذا من ضعف قلوب الصوفية قد زهد في الدنيا ما غلبه من أخذها ، فبين أن كراهية كون الركوة في بيته التفات إليها سببه الضعف والنقصان .
فإن قلت : فما بال الأنبياء والأولياء هربوا من المال ونفروا منه كل النفار فأقول : كما هربوا من الماء على معنى أنهم ما شربوا أكثر من حاجتهم ففروا عما وراءه ولم يجمعوه في القرب والزوايا يدبرونه مع أنفسهم بل تركوه في الأنهار والآبار والبراري للمحتاجين إليه ، لا أنهم كانت قلوبهم مشغولة بحبه أو بغضه ، وقد حملت خزائن الأرض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبي بكر رضي الله عنهما فأخذوها ووضعوها في مواضعها وما هربوا منها . وعمر
إذ كان يستوي عندهم المال والماء والذهب والحجر وما نقل عنهم من امتناع فإما أن ينقل عمن خاف أن لو أخذه أن يخدعه المال ويقيد قلبه فيدعوه إلى الشهوات وهذا حال الضعفاء فلا جرم البغض للمال والهرب منه في حقهم كمال ، وهذا حكم جميع الخلق ؛ لأن كلهم ضعفاء إلا الأنبياء والأولياء وأما أن ينقل عن قوي بلغ الكمال ولكن أظهر الفرار والنفار نزولا إلى درجة الضعفاء ليقتدوا به في الترك إذ لو اقتدوا به في الأخذ لهلكوا كما يفر الرجل المعزم بين يدي أولاده من الحية لا لضعفه عن أخذها ولكن لعلمه أنه لو أخذها أخذها أولاده إذا رأوها فيهلكون والسير بسير الضعفاء ضرورة الأنبياء والأولياء والعلماء .