الثالث : أنه لا ينفك عن إيذاء المسئول غالبا لأنه ربما لا تسمح نفسه بالبذل عن طيب قلب منه فإن فهو حرام على الآخذ وإن منع ربما استحيا وتأذى في نفسه بالمنع إذ يرى نفسه في صورة البخلاء ففي البذل نقصان ماله وفي المنع نقصان جاهه وكلاهما مؤذيان والسائل هو السبب في الإيذاء والإيذاء حرام إلا بضرورة . بذل حياء من السائل أو رياء
ومهما فهمت هذه المحذورات الثلاث فقد فهمت قوله : صلى الله عليه وسلم : مسألة الناس من الفواحش ما أحل من الفواحش غيرها فانظر كيف سماها فاحشة ولا يخفى أن الفاحشة إنما تباح لضرورة كما يباح شرب الخمر لمن غص بلقمة وهو لا يجد غيره .
وقال : صلى الله عليه وسلم : من سأل عن غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم ، ومن سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ووجهه عظم يتقعقع وليس عليه لحم وفي لفظ آخر كانت مسألته خدوشا وكدوحا في وجهه وهذه الألفاظ صريحة في التحريم والتشديد .
وبايع رسول الله : صلى الله عليه وسلم قوما على الإسلام فاشترط عليهم السمع والطاعة ثم قال لهم كلمة خفية ولا تسألوا الناس شيئا وكان : صلى الله عليه وسلم يأمر كثيرا ويقول : بالتعفف عن السؤال من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله ، ومن لم يسألنا فهو أحب إلينا وقال صلى الله عليه وسلم : استغنوا عن الناس وما قل من السؤال فهو خير ، قالوا : ومنك يا رسول الله ؟ قال : ومني وسمع عمر : رضي الله عنه : سائلا يسأل بعد المغرب فقال لواحد من قومه : عش الرجل فعشاه ثم سمعه ثانيا يسأل فقال : ألم أقل لك عش الرجل ؟ قال : قد عشيته ، فنظر فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزا ، فقال : لست سائلا ولكنك تاجر ، ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة ، وضربه بالدرة وقال : لا تعد . عمر
ولولا أن سؤاله كان حراما لما ضربه ولا أخذ مخلاته ولعل الفقيه الضعيف المنة الضيق الحوصلة يستبعد هذا من فعل ويقول : أما ضربه فهو تأديب وقد ورد الشرع بالتعزير وأما أخذه ماله فهو مصادرة ، والشرع لم يرد عمر فكيف استجازه وهو ، استبعاد مصدره القصور في الفقه ، فأين يظهر فقه الفقهاء كلهم في حوصلة بالعقوبة بأخذ المال رضي الله عنه واطلاعه على أسرار دين الله ومصالح عباده ، أفترى أنه لم يعلم أن المصادرة بالمال غير جائزة أو علم ذلك ولكن أقدم عليه غضبا في معصية الله وحاشاه أو أراد الزجر بالمصلحة بغير طريق شرعها نبي الله وهيهات فإن ذلك أيضا معصية ، بل الفقه الذي لاح له فيه أنه رآه مستغنيا عن السؤال وعلم أن من أعطاه شيئا فإنما أعطاه على اعتقاد أنه محتاج وقد كان كاذبا ، فلم يدخل في ملكه بأخذه مع التلبيس وعسر تمييز ذلك ورده إلى أصحابه ، إذ لا يعرف أصحابه بأعيانهم فبقي مالا لا مالك له ، فوجب صرفه إلى المصالح ، وإبل الصدقة وعلفها من المصالح ، ويتنزل عمر بن الخطاب كأخذ العلوي بقوله : إني علوي وهو كاذب . أخذ السائل مع إظهار الحاجة كاذبا
فإنه لا يملك ما يأخذه كأخذ ، الصوفي الصالح الذي يعطى لصلاحه وهو في الباطن مقارف لمعصية لو عرفها المعطي لما أعطاه وقد ، ذكرنا في مواضع أن ما أخذوه على هذا الوجه لا يملكونه وهو حرام عليهم ويجب عليهم الرد إلى مالكه فاستدل بفعل رضي الله عنه : على صحة هذا المعنى الذي يغفل عنه كثير من الفقهاء وقد قررناه في مواضع ولا تستدل بغفلتك عن هذا الفقه على بطلان فعل عمر . عمر
فإذا عرفت أن السؤال يباح لضرورة فاعلم أن الشيء إما أن يكون مضطرا إليه ، أو محتاجا إليه حاجة مهمة ، أو حاجة خفيفة ، أو مستغنى عنه ، فهذه أربعة أحوال .