فإن قلت : فقد ظهر الآن أن الكل جبر فما معنى الثواب والعقاب والغضب والرضا وكيف غضبه على فعل نفسه فاعلم أن معنى ذلك قد أشرنا إليه في كتاب الشكر فلا نطول بإعادته فهذا هو القدر الذي رأينا الرمز إليه من التوحيد الذي يورث حال التوكل ولا يتم هذا إلا بالإيمان بالرحمة والحكمة فإن التوحيد يورث النظر إلى مسبب الأسباب ولا يتم حال التوكل كما سيأتي إلا بالثقة بالوكيل وطمأنينة القلب إلى حسن نظر الكفيل وهذا الإيمان أيضا باب عظيم من أبواب الإيمان وحكاية طريق المكاشفين فيه تطول ، فلنذكر حاصله ليعتقده الطالب لمقام التوكل اعتقادا قاطعا لا يستريب فيه . والإيمان بالرحمة وسعتها هو الذي يورث الثقة بمسبب الأسباب
وهو أن يصدق تصديقا يقينيا لا ضعف فيه ولا ريب إن الله عز وجل : لو خلق الخلق كلهم على عقل أعقلهم وعلم أعلمهم وخلق لهم من العلم ما تحتمله نفوسهم وأفاض عليهم من الحكمة ما لا منتهى لوصفها ، ثم زاد مثل عدد جميعهم علما وحكمة وعقلا ، ثم كشف لهم عن عواقب الأمور ، وأطلعهم على أسرار الملكوت ، وعرفهم دقائق اللطف وخفايا العقوبات حتى اطلعوا به على الخير والشر والنفع والضر ، ثم أمرهم أن يدبروا الملك والملكوت بما أعطوا من العلوم والحكم لما اقتضى تدبير جميعهم مع التعاون والتظاهر عليه أن يزاد فيما دبر الله سبحانه الخلق به في الدنيا والآخرة جناح بعوضة ، ولا أن ينقص منها جناح بعوضة ، ولا أن يرفع منها ذرة ولا أن يخفض منها ذرة ، ولا أن يدفع مرض أو عيب أو نقص أو فقر أو ضر عمن بلي به ، ولا أن يزال صحة أو كمال أو غنى أو نفع عمن أنعم الله به عليه بل كل ما خلقه الله تعالى من السموات والأرض إن رجعوا . فيها البصر وطولوا فيها النظر ما رأوا فيها من تفاوت ولا فطور .